أمريكا ترامب من أقصى اليمين إلى التنوير المظلم III - التنوير المظلم

التنوير المظلم أو الأنوار المظلمة The Dark Enlightenment هو عنوان لكتاب «نيك لاند»

والذي يفسر فيه «الرجعية الجديدة» وأفكار يارفين/مولدبوق (والذي يستعمل فقط كلمة «تنوير رجعي» 1reactionary enlightenment) . وقبل الخوض في الكتاب من هو نيك لاند. هو إنجليزي أستاذ فلسفة في جامعة وارويك (المملكة المتحدة من 1987 الى 1998) واحدى مؤسسي وحدة بجث سيبرنيتيكية تمزج العديد من الاختصاصات العلمية بما فيها المستقبلية والخيال العلمي. ثم انتقل بعد استقالته من الجامعة الى شانقاي في سنوات 2000 وواصل كتابة مقالات جمعها في 2007 ). Fanged Noumena: Collected Writings 1987-2007 ورجع بقوة في 2012 كمفسّر للرجعية المجددة لـ«منسيس مولدبوق» معجبا بنزعته الكارثية واسلوبه الاستفزازي وغموض لغته. وربما المزج بين الإنسان و التكنولوجيا2 . شهر قبل انتخابات 2016 أصبح «لاند» كاتب عمود في The Daily Caller محطة ماديا محافظة معتمدة لدى البيت الأبيض، حيث كتب «الديمقراطية تتجه نحو الفاشية3» . عرف أيضا «نيك لاند» بما يسمى «التسريعية» (accelerationism) أي التسريع الجذري في انجاز الرسمالية والتحولات التقنية المصاحبة لزعزعة استقرار الرسمالية والتسريع في سقوطها. والفكرة في الأصل يسارية فيها طاقة تفجيرية كامنة جذبت اقصى اليمين. يعترف «لاند» في مقال تأسيس مدخلي (2017) بأن الفكرة مستوحاة من مفهوم déterritorialisation للمفكرين اليساريين الفرنسسن جيل دولوز Gilles Deleuze وفليكس قتاري 4Félix Guettari. ينادي «لاند» بتسريع نهاية النظام الحالي عبر «التحطيم الخلاق» .» فلا فرق بين تحطيم الرأسمالية وتكثيفها. التحطيم الذاتي للرأسمالية هو الراسمالية ذاتها». لنسرع بذلك لخلق نظام ما بعد رأسمالي وما بعد انساني يمتزج فيه الانسان بالآلة.

there is no distinction to be made between the destruction of capitalism and its intensification. The auto-destruction of capitalism is what capitalism is.

أين يكمن الأشكال؟ في أن النظام الحالي الرسمالي الديمقراطي ومنظومته القيمية يعطّل النهاية التي يعمل التنوير المظلم للتسريع بها.

من نافلة القول أن عنوان الكتاب هو قلب لمفهوم الفيلسوف كانت للأنوار ك»خروج الإنسان من حالة القصور الذي سببه لنفسه بنفسه. القصور هو إعاقة عدم استعمال المرء لعقله دون قيادة شخص آخر» وشعار الأنوار هو استعمال العقل الذاتي دون قيادة شخص آخر. والانوار هي أيضا مرحلة وقيم ندين لها الى اليوم. لا توجد مقدمة للكتاب. يعترف لاند في الفصل الأول «الرجعيون الجدد يتجهون نحو الخروج». بأن «التنوير» ليس بحالة فقط بل «ظاهرة ومسار». ولكن الهدف آخر.

• فك الارتباط بين الديمقراطية والحرية

يعترض نيك لاند على التصور التقدمي للأنوار الذي يفترض أصحابه أن الحرية والديمقراطية هي المنتصرة في آخر المطاف. ويفك الارتباط بينهما على غرار الرجعيين الجدد في شكل الليبرتاريين مقتبسا رأي بتريك تيل الذي قدمناه في الحلقة الأولى و القائل: «أنا لم أعد أؤمن أن الحرية والديمقراطية يتوافقان» ذلك أن الديمقراطية تقدم حل «مضحك» للسيادة الشعبية وللرغبة المفرطة للدولة لالتهام المجتمع بمفهوم « توماس هبس». وهنا يتميز أصحاب الأنوار المظلمة (يارفين/ملدبوق ونيك لاند) عن الليبرتاريين المعتدليين الذين ليس لهم حل لتضاد الدولة والمجتمع الا التقليص من دور الدولة في إدارة المجتمع وتوسيع هامش الحرية للفرد. هذا رأيناه . ويرى أصحاب الأنوار المظلمة أنه عمل سيزيفي أي أنه ما ان تقلص دور الدولة الا واسترجعت الدولة قواها مجددا. هنالك حل يقترحه «الفوضوين-الرأسماليين»Anarcho-capitalism أو الليبرتاريين المتطرفيين، يتمثل في التخلص من الدولة وإرساء مجتمع بلا دولة بحيث يحل محلها «السيادة الفردية» و تبادل السلع والأشياء والتعاقد الارادي بين الأفراد والأهالي بدون اللجوء للعنف. لا يشاطر منظري الأنوار المظلمة فكرة «الفوضوين-الرأسماليين» التخلي على الدولة ولكن يشتركون معهم في كراهية الديمقراطية. يذكر «نيك لاند» في هذا الصدد نقد الفوضوي-الرأسمالي هانس هرمان هوب Hans-Hermann Hoppe للديمقراطية الذي يراها سبب انحطاط الحضارة و يشاطره فكرة تفوق النظام الملكي على الديمقراطي في الحفاظ على الحرية.

عنوان الفصل الثاني «قوس التاريخ طويل ولكن يتجه نحو نهاية رديئة». الكلمة التي يستعملها هي zombie وهي صورة بلاغية للتعبير على الرداءة ، أو الكسل أو السذاجة. ما يعاب على الديمقراطية هي خلق مجتمعzombie استهلاكي آت على الأخضر واليابس. والديمقراطية هي آخر مراحله. ويردد الكاتب كلمة « زنبي» فالأنوار تخلق «تسامح-ساذج» « «enlightened zombie-tolerance). والمساعدات الاجتماعية تخلق شعب «زنبي» كسول. يواصل «نيك لاند» في الفصل الثاني الخوض في تعارض الحرية والديمقراطية مستشهدا بما ما كتبه «ستيف هانك» Steve Hanke في مقالة «الديمقراطية قبالة الحرية» 5On Democracy Versus Liberty (2011) في أنه لا أثر لكلمة ديمقراطية في نصوص ومواثيق واعلانات الحقوق ولا في تصاريح الآباء المؤسسين للنظام الأمريكي. الحقوق الأساسية هو مطلبهم فقط (الحرية، والملكية، والأمن) . الدرس حسب ستيف هانك هو «أولا، 'الديمقراطية' و'الحرية' ليست كلمات قابلة للتبادل». ثانيا، القرن الأول في أمريكا هو المرجع في الحقوق، وأخيرا، شعار نشر الديمقراطية يستوجب الحذر. فنشر الديمقراطية قد ينتجه عنه «استبداد منتخب»

What lessons can we learn? First, “democracy” and “freedom” are not interchangeable words. Second, only the first century of the American experience represents a standard for freedom. Expanding democracy is a slogan which requires great caution. It can easily result in elected tyranny.

ما العمل اذا كانت الدولة ضرورية؟ الحل الذي يقترحه يارفين/مولبوق على لسان «لاند» هو : «التداوي» من اليديمقراطية على الأقل (أو الحوكمة السيئة والساقطة باطراد). وطريقة القيام بذلك هو تقنين هذا التوجه بتقديم بديل.

• الدولة بزنس

يسمي يارفين/مولدبوق Yarvin/Moldbug هذا التشكل النظري «neo-cameralism « والذي بمكن ترجمته تقريبا ب «المخزنية المتجددة». ذلك أن كلمة مشتقة من الألمانية Kamera والتي لا تعني غرفة بل الموضع التي يودع بها الأموال العامة. والمخزنية هي نزعة إتجاريه او مركانتلية سادت في بروسيا الألمانية في القرن التاسع عشر تهتم فقط ولا شيء غير بالمتاجرة وبالإثراء. هكذا تصبح «الدولة شركة تملك بلد». وكأي شركة أسهم ربحية، لكل سهم صوت ويختار المساهمون أعضاء مجلس الإدارة الذين يختارون بدورهم رئيس مدير عام وينتدبون ويقيلون المسيرين. هكذا يقع «سحق الاسطورة الديمقراطية» (الدولة ملك المواطنين) لصالح مسيرين محددين.

To a neocameralist, a state is a business which owns a country. A state should be managed, like any other large business, by dividing logical ownership into negotiable shares, each of which yields a precise fraction of the state’s profit. (A well-run state is very profitable.) Each share has one vote, and the shareholders elect a board, which hires and fires managers.

يمكن أن نسمي هذا التوجه «الملكية التكنوقراطية» techno-monarchism

يعترف الكاتب أن «المخزنية المستحدثة» الكاملة لم تطبّق أبدا. ولكن نظام حكم فريدرك الكبير «المستبد المستنير» في بروسيا في القرن التاسع عشر وسنغافورة ودبي (نعم دبي) الآن يمثلن نماذج يحتذى بها لان هذه الدول «تقدم خدمات ذات قيمة عالية بدون ديمقراطية ذات معنى اطلاقا». ويعترف بأن الحريات السياسي مفقودة ولكنها غير مهمة تحديدا في وجود حكومة مستقرة وناجعة. وفي الحوار المذكور مع مجلة نيو يورك تايمزيقول يافين أن لا فرق بين مدير عام لشركة ورئيس دولة. ولا فرق بين الرئيس والدكتاتور. وقد تصرف روزفالت كدكتاتور أثناء حكمه. وأنه لا يأمن بالانتخابات ويفضل الملكية الا ان الوقت لم يحن بعد لوضعها.

• تنوير مظلم علماني عنصري

خلافا لما قد يتبادر للذهن فان الأنوار المظلمة رجعية مجددة ولكن ليست دينية مرتدة على الفكر البروتستانتي المستنير ولا هي تبشيرية ولا أصولية. بل علمانية ملحدة تتماها مع الدروينية وتحاورها. ومن هذه الزاوية يذكرنا هذا الالحاد الجريء ب»الأنوار الراديكالية» الملحدة في القرن الثامن عشر. والتي بالمناسبة كان المدافعون عنها قلة ومهمشين باستثناء سبينوزا. يتبنى «يارفين/مولدبوق» Yarvin/Moldbug فكرة أن الالحاد لا ينفي الروح الدينية التي تحرك الفرد. ولمعرفة حساسية المسألة يبدا «مولدبوق» سلسلة مقالته الشهيرة « Unqualified Reservations» (التحفظات الغير مشروطة). بتقديم نقدي لكتاب كان له أثر كبير في أمركا (بيع منه أكثر من 3 مليون نسخة) «وهم الالاه « 2006 The God Delusion للعالم ريتشارد داوكينس Richard Dawkins 7 والذي يدحض الدين وينفي وجود الله ولكن لا يتنكر للروح الدينية. فهو يقول في الفصل الأول من كتابه أنه « بعمق ديني غير مؤمن» “a deeply religious non-believer.” ويضيف «يرفين/مولدبوق» لحسابه الخاص أنه هو ليس بمن يؤمن بالخلاص بل أنه بالعكس وبغلظ «ملحد مطهو جيدا «

«I am certainly not a salvationist. Au contraire—I am a hardcore, deep-fried atheist» 8.

وفي هذا هو في تناغم مع الأنوار المضيئة للقرن الثامن عشر. ولكن يتحفظ المستنير المظلم على الكونية التي أتت بها الأنوار المضيئة. ف»الكونية هي تقديس للقوة( a cult of power). هي تزيح التقاليد الالاهية عبر استبدال الخرافات الميتافيزيقية بألغاز فلسفية مثل الإنسانية، التقدم، المساواة، الديمقراطية، العدل، البيئة، الجماعة، السلم، وهلج»

Universalism is […] a cult of power. […] It displaces theistic traditions by replacing metaphysical superstitions with philosophical mysteries, such as humanity, progress, equality, democracy, justice, environment, community, peace, etc.

هنالك مفهوم مركزي في نقد الأنوار المضيئة: الكاتدرائية .The Cathedral وهو اجترار لمفهوم ديني. لا يعني بها «يارفين/مولدبوق» مؤسسة الكنيسة بل الجهاز المركب من ثلوث الميديا والجامعة والثقافة . ساد هذا الجهاز في المجتمعات الغربية عبر النخب العلمانية. تحتكر الكاتدرائية سلطة الخطاب المستنير والتقدمي وتهمّش الخطاب المضاد (أي خطاب الرجعية المستحدثة). وذلك عبر اعتماد «عقيدة مقننة» في شكل العلوم الإنسانية التي تعتمد «النموذج العلمي الاجتماعي القياسي».

و يعتبر هذا النموذج أن الانسان كائن ثقافي لا طبيعي وأن الطبع في النهاية مبنى لا معطى. من هنا أولوية الثقافي على الطبيعي.

The central dogma of the Cathedral has been formalized as the

Standard Social Scientific Model (SSSM)[…] It is the belief […] that every legitimate question about mankind is restricted to the sphere of culture. Nature permits that ‘man’ is, but never determines what man is.

يرفض «لاند» فكر الأنوار المنيرة وذكر في الخاتمة بأن «الموضوع الأساسي هو رقابة الذهن أو فسخ الفكر» كما أثبته الجهاز المركب من الميديا والأكاديمية والذي يهمن على الحضارة الغربية.

The basic theme has been mind control, or thought-suppression, as demonstrated by the Media-Academic complex that dominates contemporary Western societies, and which Mencius Moldbug names the Cathedral.

والتنوير المظلم عنصري ينظّر لتفوق بيض البشرة. White supremacism المسألة العرقية حساسة جدا وتأخذ حيزا كبيرا من الكتاب (القصل الرابع) لأن فكر الأنوار الأصلي بني على الغاء الاستعباد والمناداة بالمساواة. في المقابل شكلت مسألة العرق مدخل لنقد الديمقراطية والتنظير للامساواة العرقية من زاوية البيولوجيا أي ما تسمى «العنصرية العلمية». يعادي فكر الأنوار المظلمة المساواة العرقية. وأن العبيد كان وضعهم أفضل في أمريكا في القرن التاسع عشر كما أنه يتحفظ على حقوق النساء. كشخص يقر يارفين ليس له «حساسية « خاصة تجاه التوفق العنصري القومية للبيض البشرة بالرغم من أنه لا ينتسب لهم . ويحمل الكاتب الكاتدرائية ( الميديا والاكديميا والثقافة) ذات المنحى اللبرالي الكوني بلورة الخطاب القائل بأن العرق «مبنى» ثقافي لا معطى طبيعي، واقصاء النقاش حول التنوع البيولوجي والأصول البيولوجية للفوارق العرقية في الذكاء وبعض التصرفات فصاحب الأنوار المظلمة مقتنع في قرارة نفسه أن «الوئام العرقي» غير ممكن. ويعد بالانفصال العرقي ويراه آت لأنه المخرج الوحيد. ويستشهد بظاهرة «هروب البيض» من المناطق السكنية للسود. الانفصال هو المستقبل.

Liberty has no future in the Anglophone world outside the prospect of secession. The coming crack-up is the only way out

ثم ما قيمة للفوارق العرقية أمام «أفق الانسان الاصطناعي» أي المركب بعضه من أعضاء الكترونية يضيف «نيك لاند»؟ وهذا الكائن ما بين الانساني أيضا هو المستقبل.

• نقد العقل الظلامي

نحن أمام عقل ظلامي يرفض جذريا للقيم الكونية والمساواة بين الأجناس و الأعراق يقوم بذلك على أساس علماني مادي (مما يفرّق الأنوار المظلمة عن الرجعية التقليدية) (1) ؛ المعاداة للديمقراطية كنظام سياسي واجتماعي قبالة الحرية الغير سياسية (وهذا ما يميز الأنوار المظلمة عن الدكتاتورية العادية) (2)؛ الانبهار بالبديل الرأسمالي التسلطي الناجع والناجح من الصين الى دبي (3)؛ كراهية سلطة الخطاب والثقافة المتهمة بتمثيل كاتدرائية (لا كراهية النخبة بصفة عامة وهو ما يمز العقل الظلامي عن الشعبوية) (4)؛ التنظير لدولة مخضرمة ما بين الشركة والتجمع الأهلي (وهو ما يميز الظلامي عن أقصى التحررية الليبرالتية (5)؛ التبشير بآدمي جديد شبه انسان شبه آلة (وهو ما يمز الأنوار المظلمة عن الفكر الديني الإنجيلي المسيحي) (6) . قد يكون هذا الفكر مدعاة للسخرية لو لم يكن أيديلوجية التكنو-أوليغارشيا التي تمكنت من النفوذ في أمركا.

انتهى

-----------------

1. صدر الكتاب على شبكة انترنات في 2012Nick Land, The Dark Enlightenment, Imperium Press, 2022

2. https://viewpointmag.com/2017/03/28/the-darkness-at-the-end-of-the-tunnel-artificial-intelligence-and-neoreaction/

3. https://viewpointmag.com/2017/03/28/the-darkness-at-the-end-of-the-tunnel-artificial-intelligence-and-neoreaction/

4. https://web.archive.org/web/20180113012817/https://jacobitemag.com/2017/05/25/a-quick-and-dirty-introduction-to-accelerationism/

5. https://www.cato.org/commentary/democracy-versus-liberty

6. https://www.cato.org/commentary/democracy-versus-liberty

7. https://www.unqualified-reservations.org/2007/09/how-dawkins-got-pwned-part-1/

8. https://www.unqualified-reservations.org/2007/10/how-dawkins-got-pwned-part-2/

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115