أمريكا ترامب: من أقصى اليمين إلى التنوير المظلم I - دوائر أقصى اليمين:

نقدم لكم انطلاقا من هذا العدد دراسة هامة للغاية في ثلاث حلقات قام بها أستاذ العلوم السياسية

حمادي الرديسي حول التيارات الفكرية والايديولوجية لأقصى اليمين الأمريكي التي ساهمت في انجاح دونالد ترامب والتي تفسر اليوم السياسات والتموقعات الجديدة للبيت الأبيض.

• أقصى اليمين، التصورات الثلاث

كشف فوز ترامب عن أزمة حقيقية للديمقراطية الامريكية تقف ورائها أفكار وقوى يمينية موغلة في التطرف، أسمائها متعددة ومعانيها متقاطعة اهم عناوينها « أقصى اليمين» far-right أو «الراديكالي» و«اليمين البديل» alternative right و»الرجعية الجديدة» أو «المستحدثة»neo-reactionary 1. وتستلهم تصوراتها من خزان نزعات المحافظة، والتحررية المفرطة أو الليبرتارية اليمينية right-wing libertarianism ، والقومية، والعداء للأجنبي وللمهاجر، والتفوق العنصري للبيض White supremacism والنازية المتجددة، والاصولية الدينية والانعزال الدولي. وهذه الآراء ليست بالطبع متجانسة ومشتركة. وتكونت تنظيمات تروج لهذه الأفكار ترجع الى القرن التاسع عشر مثل «رابطة البيض» 1874. ولعبت هذه النزعات تاريخيا دور الرافد الهامشي للحزب الجمهوري. ولم تحظى باهتمام كبير الا مع ترشح للرئاسية في التسعينيات من القرن الماضي، اليميني المحافظ التحرري العنصري بات بكانان Pat Buchanan ومؤسس مجلة «المحافظ الأمريكي» The American Conservative 2002.. وتعاظم دور هذه الدوائر الثلاث مع ظهور ترامب حتى وان لم تكن العنصر المحدد في فوزه ولا السبب الرئيسي في دخول الديمقراطية الأمريكية في أزمة وجودية2 . ألا أنه لا يمكن فهم مواقف ترامب وقراراته بدون فهم الخلفية الفكرية التي تستند عليها والأيديولوجيا التي تدير الظهر للقيم الأمريكية التاريخية. والتي تمثلها أقلية ولكنها فاعلة.

وان كــان «أقصى اليميـــن» أو «اليميـــــن الراديكالي» عنوان عام بجمع العديد من الأصناف المتقاطعة على مدى طويل يرجع في أمريكا للقرن الماضي وبداية العشرين في أورويا، فان مفهوم «اليمين البديل».

alternative right ظهر في أمريكا سنة 2010 استعمله ريتشارد برتراند سبنسر Richard Bertrand Spencer مؤسس محطة واب اسمها «اليمين البديل» The Alternative Right وميليشيات تروج لأفكار قومية، وعنصرية، ونازية جديدة، وتآمريه. وترفض بقوة الليبرالية الكلاسيكية و قيم المساواة أسس الفكر السياسي الأمريكي. وانخرطت حركة اليمين البديل في الحملة الانتخابية الرئاسية 2016 لصالح ترامب الذي لم يتردد في التنديد بها رسميا وبوضوح لرفعها أعلام وشعارات نازية اثر احتفالها بفوزه3 . ولكن أعلن في السنة الموالية 2017 اثر أحداث العنف التي اندلعت في شارلوت فيل Charlottesville بين من جهة مجموعات اليمين البديل بما فيهم المنادين بتفوق البيض White supremacists وبمشاركة ريتشارد برتراند سبنسر، ومن جهة أخرى المتظاهرين التقدميين قائلا «هنالك أناس طييبين من الجهتين». أما ثالث المفاهيم «الرجعية المتجددة» neo reactionary فقد تبناه في سنوات 2000 المدون كرتيس يارفين Curtis Yarvin الذي بدأ يكتب بلوق في 2007 باسم مانسيس مولدبوق ومؤسس «التنوير المظلم» . يقطع مع جاذبية الماضي التي ميزت الرجعية الكلاسيكية ونزعة المحافظة ويجدد الرجعية على أساس ثوري. وسنخصص الجزء الثاني لهذه السلسلة الى يارفيين و الجزء الثالث للتنوير المظلم. يقول المختص جوشيا تايت أن ترامب يلتقي مع أقصى اليمين البديل في العداء للعولمة والهجرة بدون أن يكون سجين لهم4 . هل الأمر مختلف في ما يخص التيارات الأخرى؟

• دوائر ترامب الثلاث

ثلاث دوائر أخرى من أقصى اليمين تدور حول دونلاد ترامب: اشخاص حركيون ومجموعات مناضلة ومفكرون. الحركيون نشطاء أما سياسيين أو أثرياء التكنولوجيا العالية. أهم شخصية مثيرة للجدل ضمن المجموعة الأولى هو المدبّر الإستراتيجي ستيف بانون Steve Bannon يدير موقع ماديا يميني متطرف اسمه «برايت بار نيوز» Breitbart News (يحمل اسم مؤسسه) منذ توليه مسؤولية الإدارة سنة 2012 جاعلا منه ثان موقع مزار بعد فوكس نيوز ومنصة توحيد كل فصائل اليمين البديل كما صرح بذلك5 . كما فتح أعمدة مجلته الى كل الفصائل اليمين البديل. أدار حملة ترامب في 2016 وعيّن لمدة ست أشهر في إدارة البيت الأبيض ثم وقعت تنجيته من الإدارة ومن الموقع قبل أن يرجع بقوة في انتخابات 2024 ليلعب دورا هاما في التعبئة. هو ليس بمفكر ولا بكاتب ولكن يقر بتأثيرات فكرية رجعية مثل المعادي المبكر للثورة الفرنسية أدمون بارك Edmund Burke ومفكر فاشي مغمور في ثلاثينات القرن الماضي «يوليوس أفولا' Julius Evola (ت 1974) معاد شرس للحداثة6 . و ينتسب يوليوس أفولا الى الجيل الثاني من الرجعيين الكلاسيكيين أمثال الفيلسوف ا الأمريكي الكبير ليو ستروس Leo Strauss )ت 1973) المشدود للقدماء و مؤرخ الحضارات «أسولد سبنقلر» Oswald Spengler (ت 1936) صاحب «سقوط الغرب». ويعترف ستيف بانون أنه شعبوي. ويقول ستيف بانون أيضا أنه مسيحي صهيوني7 . وقد أثارت التحية النازية «هايل هتلر» التي قام بها ستيف بانون جدلا (وأعادها ايلان ماسك). قال أنها لا تعدوا أم تكون حركة عادية الا أنه هنالك مقال في «برايت بار نيوز» يوحي بأنها غير بريئة (حسب رأيي لأني لم أقرأ هذه الحجة في أي مقالة). يصنف المقال المذكور أقصى اليمين الى ثلاث فصائل: المثقفون (من أيفولا الى كرتيس يارفين) والمحافظون (السياسيون الذين يكتب لهم المثقفون) والمجموعات المناضلة المتطرفة 8. وضمن المجموعات المتطرفة نجد في نفس المقال مجموعة « 1488» النازية المستحدثة. مذا يعني الرقم؟ 14 يشكل جملة نازية مفادها وجوب حماية شعبنا ومستقبل أبناءنا البيض. أما 88 : الثمانية هو الحرف H في سلسلة الحروف اللاتينية وبالتالي HH تصبح Heil Hitler

Why “1488”? It’s a reference to two well-known Neo Nazi slogans, the first being the so-called 14 Words: “We Must Secure The Existence Of Our People And A Future For White Children.” The second part of the number, 88, is a reference to the 8th letter of the alphabet – H. Thus, “88” becomes “HH” which becomes “Heil Hitler.

هنالك شخص محوري ثان هو بيتر تيل Peter Thiel (حسب النطق ولو أنه يكتب بالعربية ثيل)، ينتسب لزمرة المستثمرين في التقنيات العالية في السليكون فالي Silicon Valleyعلى غرار أيلان ماسك وجاف بوزوس وغيرهم مما ساندوا حملة ترامب الانتخابية. تفطن البعض للتحالف بين أرباب التكنولوجيا المتقدمة في «سليكون فالي» وأقصى اليمين9. لذلك قيل أن النظام أصبح «اقطاعي-تكنولوجي techno-feudalism والذي يعني أن أرباب «القافا» GAFA وما شابههم يملكون الأسواق بدون منافسة كما يملك السيد الاقطاعي الأرض في العصر الوسيط10 . يتميز بيتر تيل Peter Thiel على زملاءه بحدسه السياسي وبكتابته. فهو مموّل تشاطات ستيف بانون و منصة البرمجة للكمبيوتر «أربيت» Urbit لكرتيس يارفين منظّر التنوير المظلم. وحتى نائب الرئيس ج.د. فانس J.D. Vance كان يشتغل في مؤسسته لخمس أو ست سنوات. ولقد جمع كل نجوم التكنولوجيا ليلة ترشيح ترامب للرئاسية في واشنطن، شهر جانفي 2024. الميزة الثانية هو كتابته الأيديولوجية. فهو معاد للديمقراطية و صاحب الجملة الشهيرة المرجعية في أدبيات الرجعية المتطرفة، وهي عدم توافق الديمقراطية والحرية. وينبغي ان نفهم الحرية كما يفهمها التحررين اليبرتاريين. أي بتقزيم دور الدولة وتحرير المبادرة. قال ذلك في نص شهير (2009) «تربية ليبرتاري»11The Education of a Libertarian .

I still call myself “libertarian.” But I must confess... ¬¬¬¬¬I no longer believe that freedom and democracy are compatible

ما يعيبه على الديمقراطية هو الدور الاجتماعي للدولة والتوسع في حقوق المرأة مما جعل من

«الرأسمالية الديمقراطية» مفارقة. اعتبرالبعض هذه المقالة تنبأ بكتابة الدولة للنجاعة التي تقلدها أيلان ماسك 12 . وقد سبق له أن انتقد التعدد الثقافي وحقوق الأقليات في كتاب مشترك مع دافيد ساكس سنة 1995 «أسطورة التنوع» The Myth of Diversity . يقدم نقسه ك»محافظ ليبتاري»، و«محافظ قومي» أي يحث على الدفاع عن مصالح أمريكا أولا 13. تأثر عندما كان طالبا في جامعة ستاندفورد بالفيلسوف الفرنسي المسيحي ريني جيرار René Girard صاحب نظرية محاكات الرغبة أي أن الرغبة تدفع للتنافس في حلقة مفرغة يمكن الخروج منها بالبحث عن مجال احتكار بدون منافسة. وهذا ما يفعله الأشخاص الاستثنائيون وما يفعله باعثي المشاريع التكنولوجيا الجديدة. ويرى المستقبل في تجاوز السياسة عبر الابداع التكنولوجي. وهو من المدافعين على فكرة «ما-عبر-الانسانية» transhumanism التي تعمل الى تضاعف قدرات الانسان الجسدية والذهنية عبر المزج بين التكنولوجيا والانسان. وهي إحدى أفكار التنوير المظلم كما سنرى. وثالث شخصية هو السياسي العقائدي ج.د. فانس. هو أيضا محافظ قومي، يميني شعبوي، منصهر في «ما بعد الليبرالية» postliberalism أي اعتقاد أن مبادى الليبرالية (من حريات وحد من دور الدولة ) فشلت في استيعاب انحلال التضامن الاهلي وتعمق الفوارق الاجتماعية و تآكل قيم العائلة. كتب فانسJ.D. Vance «مدح الريفي» أو « مدح المتخلف» Hillbilly Elegy 2016 هو كتاب في شكل مذكرات يشيد بالطبقات العاملة البيض البشرة، التي تدهورت وضعيتها من جراء العولمة. فهو أصيل أمريكا الأوائل

To understand me, you must understand that I am a Scots-Irish hillbilly at heart.

لا يدعي فانس أن كتابه أكاديمي بل يحكي قصة عائلة فقيرة وقيم نبيلة مهددة عبر سيرته الذاتية الناجحة. ولقي الكتاب رواجا استثنائيا الى حد تحويلة الى فيلم في 2017. وهذا ما فسّر تصويت العمال البيض لصالح مرانب 14.

أما في ما يخص المفكرين الرجيعين المعاصرين فعددهم كبير وأكثر بكثير من أوروبا لسبب بسيط وهو أن أمريكا لم تعرف الفاشية مما يجعل المتطرفون أكثر جرأة وصلف. هنالك سبب آخر هو تقاطع أفكار أقصى اليمين مع التحررية الليبرتارية libertarianism مع فارق : التحررية المعتدلة تنادي بالحد من دور الدولة وتفكيك الدولة الراعية، بينما تتخلص التحررية المتطرفة من الدولة ولا تثق الا في قدرة السوق على تحقيق التوازن الاجتماعي. وهو ما يطلق عليه اسم «الرسمالية-الفوضوية» anarcho-capitalism. هذا الصنف الثاني المختلط بأقصى اليمين هو الذي يشكل الحاضنة العقائدية لترامب. ان المرجع التاريخي للتحررية هو ميراي روثبارد Murray Rodhbard رجل اقتصاد في السنوات الستين من القرن الماضي (سنرى تأثيره على كرتس يارفين في الحلقة المقبلة).

ان الاشكال من منظور الفوضويون هو التعارض نعم التعارض بين الديمقراطية والحرية في ضل ثورة تكنولوجية مستقبلية تغير علاقة الانسان بالآلة. أخطر من ذلك، ليست الديمقراطية الوحيدة التي فشلت بل أيضا الليبرالية تلك النظرية المبنية على اعلاء قيم الحرية الفردية. وقد نظّر لهذا الفشل باتريك دنيين Patrick Denenn في كتابه «لمذا فشلت الليبرالية» Why Liberalism Failed. ومن المفارقات أن يعزى أستاذ النظرية السياسية هذا الفشل لا لقصور في التصور بل الى نجاح الليبرالية في تحقيق مغزاها.

Liberalism has failed because it has succeeded 15.

باتريك دنيين كاثوليكي محافظ وربما هذا الجانب هو الذي جلب له اعجاب ج .د. فانس. ولكنه يقول صراحة ان الحل لا يكمن في الرجوع الى القيم ما قبل الحداثة بل في بناء وتعزيز أشكالا ثقافية جديدة، الاقتصاد الأهلي والحياة الدينية والمدنية 16. وبالتالي نقد الليبرالية لا يأدي حتما لنسفها.

الرجية المستحدثة هي المستفيدة من الردة. ومن روادها مايكل أنيسيموف Michael Anissimov المتأثر بالفاشي يلويوس أيفولا Julius Evola . وهو مدون بلوق حول الرجعية الجديدة في 2013 و نشرمعجم الرجعية 17. وفي 2015 نشر على حسابه الخاص كتاب «نقد الديمقراطية: دليل للرجعين الجدد A critique of Democracy : A guide for Neoreactionaries. أما مؤسسها فهو كرتيس يارفين ويليه نيك لاند منظّر التنوير المظلم.

-----------

نستعمل الألفاظ والاستشهادات والمراجع الإنجليزية حفاظا على المرجعية الأصلية

2 David Neiwert, Alt-America: The Rise of the Radical Right in the Age of Trump, Verso, 2017.

3https://www.politico.com/blogs/donald-trump-administration/2016/11/did-trump-energize-alt-right-231749

4 https://www.tabletmag.com/sections/news/articles/what-was-alt-right

5 Saran Posner (August 22, 2016) «How Donald Trump’s New Campaign Chief Created an Online Haven for White Nationalists» : https://www.motherjones.com/politics/2016/08/stephen-bannon-donald-trump-alt-right-breitbart-news/

6 Morgan Jones, How Julius Evola Became the Internet’s Favorite Fascist https://jacobin.com/2022/12/fascism-far-right-evola-bannon-bronze-age-pervert

7 https://www.jta.org/2017/11/13/united-states/stephen-bannon-says-im-proud-to-be-a-christian-zionist

8 https://www.breitbart.com/tech/2016/03/29/an-establishment-conservatives-guide-to-the-alt-right/

9 https://qz.com/1007144/the-neo-fascist-philosophy-that-underpins-both-the-alt-right-and-silicon-valley-technophiles و أيضا Smith, Harrison; Burrows, Roger, «Software, Sovereignty and the Post-Neoliberal Politics of Exit» , Theory, Culture & Society, 2021, 38 (6), p. 143–166.

10 Yanis Varoufakis, Technofeudalism: What Killed Capitalism, Random House, 2023.

11 https://www.cato-unbound.org/2009/04/13/peter-thiel/education-libertarian/

12 https://www.businessinsider.com/godfather-of-doge-peter-thiel-elon-musk-government-funding-cuts-2025-2

13 https://reason.com/2019/07/17/peter-thiel-explains-the-new-national-conservatism/

14 Jocelyn McClurg (August 17, 2016) «Best-selling ‘Hillbilly Elegy’ helps explain Trump’s appeal», August https://www.usatoday.com/story/life/books/2016/08/17/jd-vance-hillbilly-elegy-donald-trump-usa-today-best-selling-books-book-buzz/88862854/

15 Patrick J. Deneen, Why Liberalism Failed. Yale University Press, 2018, 144 و 27 صص .

ن. م. 146 ص ، 16 .

17 Neoreactionary Glossary September 19, 2013 by Michael Anissimov : https://archive.is/QXmhG#selection-121.0-543.40

يتبع

II - كيف أصبح مدوّن أهم منظّر لأقصى اليمين الأمريكي

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115