الذي يشرف عليه الدكتور الحبيب صالحة ندوة موضوعها "طيب الأكل الطيب" بدار الثقافة بلمطة بمشاركة عديد الجامعيين و المختصين.، مؤخرا، و من بين المشاركين الاستاذ رضا الكشتبان بمداخلة عنوانها "الخواء و شهوة الأكل في الأدب العربي". في ما يلي نصها:
الخواء و الشهوة في ذاكرة المفهوم : الطعام سرديّة ثقافيّة أبعاده أنثروبولوجيّة - 1
الأكل و طيبه موضوع ملازم للانسان ما ظلّ الكائن يبذل طاقة لسيرورة الحياة ، و لأنّ الأكل سلوك يوميّ و ممارسة ملازمة للكائن الحيّ ، فالطعام موضوع لكلّ الأجناس له أشكاله و ألوانه و روائحه . و في ذاكرة المفهوم نصوص كثيرة مرّت مرور السحاب على الأحقاب و الأزمان ، من محاورات أفلاطون فالعشاء الأخير فمائدة القرآن فنوادر الجاحظ و الأطعمة الأرضية لأندري جيد الى لوحة صحراء المسعدي في حدّث أبو هريرة قال..
2- الخواء أو ملحمة البطون الخاوية:
تحوم أغلب المقامات أو أغلبها حول الكدية و التقنّع من أجل قلقلة الدراهم و نيل الأعطيات ، يحرّك خيوط المقامات البيكارو ـ المكدّي الذي يواجه عوزه المادي برفاهه الفكري ، ويستعمل الفصاحة للوقاحة في جماعة المجلس، و غاية المبيكارو الحصول على النقد و المال و الكنوز و الدراهم و يدرك بابداع كلامه ما لا يدركه في واقع الحال ،فأغلب عناوين المقامات تحمل أسماء أطعمة و أشربة : الآزاذيّة ، المضيريّة ، الخمريّة ، و نجد الطعام في الساسانيّة و البغدادية .
و لم يكن المكدئ ، ذلك الرّجل الذي لفَّ رأسهُ بِبرقع حَياء ، في ظاهره و لكن قفا الصّورة مقنّع يتخفّى وراء صورته الحقيقة ، و لا ننسى في هذا الاطار أنّ عالم المقامات هو عالم الأقنعة و التخفّي ، مطلبهُ السّويق (وهو دقيق الشّعير و القمح ) و الدّقيق و الخرديق (مرقة يوضع بها الخبز ليصبح ثريدا ) و لئن بدا الطلب في هذه المقامة سدّا للرمق و تحقيقا للبلغة فانّ المكدّي سرعان ما تخلّى عن خطاب الجماعة ليركزّ على الراوي الثريّ و يغيّر الطلب من طعام عاميّ بسيط الى مال كثير يدرك به أطايب الحياة :
قال عيسى بنُ هشام فأخذتُ من الكيسِ أَخذَة و نِلتُهُ ايَّاها فقال :
يا منْ عنَاني بجميلِ برّهِ ... أُفضِ الى الله بحُسنِ سرّهِ (3)
و الطريف في الأمر أنّ المقامات تخضع لثنائيّة الشّهوة و التحقّق أو اشتداد الرغبة و انطفاؤها . فبلاغة المقامة هي ادراك النّعيم في الأكل بجريان الحجاج على تغيير سُلُوك أهل المجلس خاصّة .
انّ الأدَب يصفُ العالم الممكن ، بينما هذا الممكن لا يتحقّق ، هُو يُحيِي ما ماتَ في حين أنّ الشهوةَ ليسَتْ من الأدبِ ، فالانسَانُ لا يشتهي الاّ ما رَأَى وَ سَمعَ ، و الحديثُ عن الطعام في المقامات يأتِي أملا مفقُودا تُطاردُه النُفوس الحرّى و يكفي أن نستحضر المقامة المجاعيّة تأصيلا للخُواء فقد دار النّصّ حول المفاضلة بين أصناف المآكل، و تكرار ما تقول؟ و ماقولُكَ ؟ و الهمذاني يسرُدُ عالما مواتا لاحياء الشهوات .
فالاختيار الأول : رغيف ، على خوان نظيف ، و بقل قطيف ،و خلّ ثقيف ، خردل حرِّيف ( نوع من الخمر ) ، و شواء صفيف : سفُود ، ثمّ الأقداح الذهبيّة و الراح العنبيّة
الاختيار الثّاني : أوساط محشوّة ،أكواب مملوّة ، فرش منضّدة و أنوار مجوّدة ، و مطرب مجيد لهُ من الغزال عين و جيد ، هناك اضافة عن الاختيار الأول و تتمثّل في اطار الاقامة و عنار الغناء .
قال له – فانْ لم تُردْ هذا وَ لا ذاك ، و في الدلالات الزمنية للاستعمال وظّف الماضي ، و المخاطب لم يرد هذا و لا ذاك لسبب معلوم وهو أنّه لم يختر لأنّه فاقد للارادة و الاختيار
الاختيار الثّالث :اللحم و السمك و الرّاح و التّفاح و مضجع وطيْ على مكان عليّ بنهره الجرّار و الحوض الثرثار . لعلّ الاختيار الأرقى و الأعلى و بالتالي فهو الجنّة المنشودة ـ و جنّة ذات أنهار ـ الطعام وعد موعود في واقع موجود و أمل مفقود .
الطّعام و الماء و الجنّة جزء من الايديولوجيا لدفع النّاس الى المقدس و العبادة .
فقال له أنا عبد الثلاثة : أي يأكل الغذاء الأول ثم يحضر المجلس الثاني ثم اذا دخل به الشّراب و الطرب و انهضم غذاؤه عاد الى الثالث ثم نام .
انّ طيب الطعام في الأدب العربي من خلال النماذج المذكورة انّما هو محمول على الآتي من الزمان في سياقات القداسة المستقبلية ، هو أكل استعاري نتمثله في الخيال و الحلم مستوحى أساسا من القرآن.
و الطريف أنّ الشهوة في المقامات متولّدة عن الفقد و الحاجة ففي المقامة البغداديّة يقول الراوي عيسى بن هشام ـ اشتهيتُ الآزاذ و انا ببغذاذ .و لعلّ أروع جملة تمثّل الحدّة النثريّة للمقامات وتربط بين مفاصل النّصوص بتنوع أقنعتها و تباين أفضِيتها وتقابل مكونات مجلسها ما ذكره الهمذاني في آخر المقامة المجاعيّة في قوله : لا حيّاك الله أحيَيْتَ شهوات قدْ كانَ اليَّأسُ أمَاتها ــ
في خاتمة المطاف نقول : بالكلام حاجج الأدباء و أكّدوا و وصفوا أطايب الطعام و استغربوا و استفهموا و نفوا و أثبتوا و مثّلوا و شبّهوا ليدركُوا ما استحال في الواقع ، لكن سرعان ما يكون الجواب كلاما بكلام .
يقول المروزي للزّائر اذا اتاه وللجليس اذا طال جلوسه:تغديتَ اليوم؟فإن قال: تغديتُ قال له :لولا انك تغديتَ لغذَيتكَ غداء طيبا فان قال لا قال :لو كنتَ تغديتَ لسقيتُك خمسَة اقداح فلا يصيُر ليدهِ في الوجهين قليل .
الخَواء وشَهوة الأكل في الأدبِ العربيّ ( لا يشبع من روحه الجوع )
- بقلم المغرب
- 15:13 11/06/2024
- 456 عدد المشاهدات
بقلم: رضـــا الكشتبان
نظمت جمعية صيانة مدينة لمطة بالشراكة مع كلية الآداب منوبة و مخبر الدراسات المغاربية