أمرًا بتدابير احترازية، في "قضية تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة"، والتي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. هذا وقد صدر الأمران السابقان على التوالي في 24 يناير و28 مارس 2024. ويجب أن يضاف لهذه الأوامر الثلاثة، قرار صدر في 16 فبراير 2024 من الهيئة القضائية العليا التابعة للأمم المتحدة ومقرها في لاهاي (هولندا).
ونذكّر باختصار بأن جمهورية جنوب أفريقيا قدمت في 29 ديسمبر 2023 إلى محكمة العدل الدولية، دعوى ضد دولة إسرائيل بشأن انتهاكات مزعومة في قطاع غزة، للالتزامات الناشئة عن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948، ودخلت حيز النفاذ في 12 يناير 1951 ويبلغ عدد الدول الأطراف فيها 150 دولة (بما في ذلك إسرائيل وجنوب أفريقيا).
لقد تضمنت دعوى جنوب أفريقيا طلبًا بإصدار أمر بتدابير احترازية ، مما أدى إلى صدور الأمر الأول في 26 يناير 2024 الذي تضمن أمر محكمة لاهاي لإسرائيل بـ "اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمنع ارتكاب أي فعل ضد الفلسطينيين في غزة، من الأفعال المنصوص عليها في المادة الثانية من الاتفاقية ، لاسيما: أ) قتل أعضاء الجماعة؛ ب) إلحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم لأفراد الجماعة؛ ج) إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يراد بها إهلاكها الجسدي كليًا أو جزئيًا؛ د) فرض تدابير تستهدف عرقلة الولادات في أوساط الجماعة".
لكن، وبسبب استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزّة وبسبب الوضع الإنساني الكارثي في "رفح" حيث تكدّس 1.7 مليون نازح بلا مأوى أو طعام أو رعاية طبيّة، طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة ممارسة، وبشكل مستعجل، للسلطة التي يخولها إياها نص الفقرة 1 من المادة 75 من نظامها الداخلي، والتي تنص على أن " للمحكمة سلطة النظر من تلقاء نفسها فيما إذا كانت ظروف القضية تستدعي إصدار أمر بتدابير احترازية يتعين على أحد الأطراف أو كليهما اتخاذها أو تنفيذها، حتى لو لم يطلب أي من الطرفين ذلك."
في قرارها الصادر في 16 فبراير 2024، أكدت المحكمة مجددا التدابير المأمور بها في 26 يناير 2024، معتبرة مع ذلك أن "الوضع المثير للقلق [في رفح] [...] لا يستدعي إصدار تدابير إضافية".
لكن هذا القرار لم يثن جنوب أفريقيا عن التزامها، حيث طلبت من المحكمة في 6 مارس 2024، "إصدار تدابير احترازية جديدة أو تعديل تلك التي أصدرتها في 26 يناير 2024". وقد أدى طلب جنوب أفريقيا إلى صدور الأمر الثاني بتدابير مؤقتة في هذه القضية.
وقد جددت محكمة العدل الدولية، فعلا في أمرها الصادر في 28 مارس 2024، التأكيد على التدابير التي تضمنها أمرها المؤرخ في 26 يناير 2024 كما ضمنته تدابير جديدة. حيث أمرت المحكمة دولة إسرائيل بـ: "أ) اتخاذ فورا جميع التدابير الضرورية والفعالة بالتعاون الوثيق مع منظمة الأمم المتحدة، لضمان تزويد الفلسطينيين في جميع أنحاء قطاع غزة، بكافة الخدمات الأساسيّة والمساعدات الإنسانية العاجلة، لاسيّما الغذاء والمياه والكهرباء والوقود والمأوى والملابس ومواد ومرافق النظافة والصرف الصحي، فضلاً عن الرعاية الطبية وتجهيزاتها، من قبل جميع الأطراف المعنية على نطاق واسع وبدون قيود. على أن يتم ذلك لاسيما من خلال زيادة عدد المعابر البرية وقدراتها، مع إبقائها مفتوحة طالما كان ذلك ضروريًا؛ ب) ضمان، وبشكل فوري، عدم ارتكاب قواتها المسلحة أي أفعال تشكل انتهاكًا لأي حق من حقوق الفلسطينيين في غزة بصفتهم جماعة محمية بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بما في ذلك منع تسليم المساعدات الإنسانية العاجلة المطلوبة، بأي شكل من الأشكال".
تجاهلت إسرائيل تمامًا أمري يناير ومارس 2024 وواصلت عملياتها العسكرية المدمّرة وتوسّعت لتصل إلى رفح، آخر نقطة تجمّع للمدنيين الفارين من الدّمار بسبب الهجمات الإسرائيلية.
مرة أخرى، لجأت جنوب أفريقيا في 10 مايو 2024 إلى الهيئة القضائية الدولية وأودعت لديها "طلبًا مستعجلا بتعديل التدابير الاحترازية وإصدار تدابير جديدة".
في 24 مايو 2024، قبلت محكمة العدل الدولية الطلب الجديد لجنوب أفريقيا، الذي نظرت فيه باعتباره طلبا لتعديل الأمر المؤرخ في 28 مارس ومن ثم أصدرت المحكمة أمرها الثالث في قضية الحال.
بدأت المحكمة في تحليلها بطرح السؤال حول ما إذا كان "يتعين الاستنتاج أن الوضع الذي دعا إلى القرار الوارد في أمرها الصادر في 28 مارس 2024 قد تغير منذ ذلك الحين". وردًا على ذلك، لاحظت المحكمة بأن "الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة، الذي أشارت إليه المحكمة في أمرها الصادر في 26 يناير 2024 بأنه معرض للتدهور، قد تدهور فعلا، وأنه ازداد سوءا منذ صدور أمرها المؤرخ في 28 مارس 2024. وفي هذا الصدد، تلاحظ المحكمة أن المخاوف التي عبرت عنها في قرارها الذي أبلغت به الأطراف في 16 فبراير 2024 بشأن تطور الوضع في "رفح" قد تحققت، وأن الوضع الإنساني يمكن وصفه اليوم بأنه كارثي".
في 6 مايو 2024، وبعد أسابيع من القصف العسكري المكثف لـ"رفح"، حيث لجأ أكثر من مليون فلسطيني خضعوا لأوامر إسرائيلية بإخلاء مناطق تغطي أكثر من ثلاثة أرباع مساحة قطاع غزة، أمرت إسرائيل نحو 100 ألف فلسطيني بإخلاء الجزء الشرقي من رفح والانتقال إلى مناطق "المواصي" و"خان يونس" تحضيرًا لهجوم عسكري.
ولا تزال الهجمة العسكرية البرية على رفح التي بدأتها إسرائيل في 7 مايو 2024 مستمرة حتى اليوم وأدت إلى أوامر إخلاء جديدة. ونتيجة لذلك، ووفقًا لمعلومات جمعتها الأمم المتحدة، فقد نزح من رفح بحلول 18 مايو 2024 قرابة الـ 800 ألف شخص ".
واعتبرت المحكمة أن هذه التطورات "التي تتسم بخطورة استثنائية، ولاسيما الهجوم العسكري على "رفح" وما نتج عنه من نزوح متكرر وواسع النطاق لسكان قطاع غزة من الفلسطينيين، الموجودين أصلا في حالة هشاشة قصوى، تمثل تحولا في الوضع بمعنى المادة 76 من النظام الداخلي للمحكمة". وبناء عليه فقد رأت المحكمة أن "التدابير الاحترازية المشار إليها في أمرها الصادر في 28 مارس 2024، كما تلك التي تم تجديد التأكيد عليه فيه، لا تغطي بشكل كامل العواقب الناجمة عن التغيير في الوضع الموضح أعلاه، وهو ما يبرر تعديل هذه التدابير".
وفي المرحلة الثانية، نظرت المحكمة، كما جرت العادة، فيما إذا كانت الشروط اللازمة لإصدار تدابير احترازية قد استوفيت، ولاسيما وجود ضرر جسيم لا يمكن إصلاحه يطال «الحقوق المحتملة التي تطالب بها جنوب إفريقيا، وما إذا كانت هناك حالة استعجال». وهنا أيضًا، جاءت إجابة المحكمة إيجابية، حيث أكدت أن «الوضع الحالي الناجم عن الهجوم العسكري الإسرائيلي على "رفح" يؤدي إلى زيادة مخاطر حدوث ضرر لا يمكن إصلاحه للحقوق المحتملة التي تطالب بها جنوب إفريقيا، وأن هناك حالة استعجال، أي أن هناك خطرًا حقيقيًا ووشيكًا بحدوث مثل هذا الضرر قبل أن تبت المحكمة نهائيا في موضوع قضية الحال ".
بعد أن ثبت لدى المحكمة تغير الوضع، ووجود ضرر لا يمكن إصلاحه وبأن الحالة مستعجلة، أمكنها الانتقال إلى تحديد تدابير التعديل لأمرها السابق المؤرخ في 28 مارس، 2014 وفق ما تقتضيه الظروف الجديدة للقضية.
أولاً، وعلى عكس أمريها السابقين، فإن محكمة العدل الدولية خطت خطوة إلى الأمام، وأمرت بوقف إطلاق النار: "ترى المحكمة أنه ينبغي على إسرائيل، طبقا لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بعدم ارتكاب الإبادة الجماعية ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ينبغي عليها أن توقف على الفور هجومها العسكري وأي إجراء آخر تقوم به في محافظة "رفح"، والذي قد يؤدي إلى إخضاع الجماعة الفلسطينية في غزة، لظروف معيشية يراد بها تدميرها/إهلاكها المادي كليا أو جزئيا". يبدو أن وقف الهجوم العسكري لا يتعلق، من حيث المبدأ، إلا بـ"رفح"، ولكن كما أشرنا إليه في تعليقنا على الأمر الأول، فإن التدبير الأول "يستدعي بحكم الواقع أن وجوب وقف إسرائيل لضرباتها الجوية وهجماتها البرية والبحرية،". وإلا فمن الصعب تصور كيف يمكن تجنب قتل أفراد الجماعة، إلخ. مع استمرار الهجوم العسكري الإسرائيلي".
"يتمثل التدبير الثاني المبتكر والمتضمن في الأمر الصادر في 24 مايو، يتمثل في إلزام إسرائيل بـ «اتخاذ تدابير تكفل بشكل فعال إمكانية الوصول إلى قطاع غزة وبدون عوائق لأي لجنة تحقيق أو بعثة لتقصي الحقائق أو أي هيئة أخرى مكلفة من قبل الأجهزة المختصة للأمم المتحدة بالتحقيق في ادعاءات الإبادة الجماعية»".
وأخيرًا، ألزمت المحكمة إسرائيل بتقديم تقرير عن تنفيذ الأمر. وقد فعلت ذلك في الأمرين السابقين، ولكن الأمر المؤرخ في 24 مايو، كان أكثر حزما وصرامة حيث "ترى المحكمة أنه ينبغي على إسرائيل أن تقدم لها، في غضون شهر واحد من تاريخ صدور هذا الأمر، تقريرًا عن جميع التدابير التي اتخذتها لتنفيذ هذا الأمر. وسيتم بعد ذلك إحالة التقرير المقدم إلى جنوب أفريقيا، التي ستتاح لها فرصة إبداء ملاحظاتها عليه وتقديمها إلى المحكمة". بالتالي فقد منحت جنوب أفريقيا حق الرد، وفي حال إصرار إسرائيل على مواصلة هجومها التدميري واسع النطاق، فإن جنوب إفريقيا تحتفظ بحقها في طلب تدابير جديدة.
تم اعتماد جميع هذه التدابير بأغلبية ساحقة. لم يصوت ضدها سوى القاضي الخاص باراك المعين من قبل إسرائيل، والقاضية الأوغندية سيبوتيندي، نائبة رئيس المحكمة حاليا.
يُعد الأمر الصادر في 24 مايو 2024 عنصرًا جديدًا ذا أهمية حاسمة في الملف القانوني للوضع في غزة وللقضية الفلسطينية بشكل عام. إن التطورات القانونية التي تصدق على الحقوق الفلسطينية على الساحة الدولية، تساهم في تعزيز الملف السياسي وتضع إسرائيل وداعميها، لاسيما الولايات المتحدة، في موقف يزداد صعوبة. ومع تكثيف الملف القانوني، فإن الحل السياسي سيفرض نفسه، ولن يصبح بالإمكان تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره لفترة طويلة.