افريقيا وغزة

شكلت الدعوى القضائية التي تقدمت بها جنوب افريقيا ضد اسرائيل في محكمة العدل الدولية

في لاهاي في 29 ديسمبر 2023 حول جريمة الابادة الجماعية لحظة مفصلية لا في مسار هذه الحرب المدمرة فقط بل كذلك في علاقة القارة بالنضال الوطني الفلسطيني والقضايا العربية بشكل عام .

لم تتمكن المفاوضات والديبلوماسية والتعبئة والضغط الكبير الذي قامت حركات المجتمع المدني في البلدان المتقدمة من ايقاف الة الحرب المدمرة من جهة، فكان الاتجاه الى القضاء الدولي للضغط على اسرائيل وإيقاف الحرب.من جهة ثانية جاءت هذه الدعوى و مبادرة جنوب افريقيا لإعطاء دفع جديد للعلاقات الافريقية العربية ودعم القارة للنضال الوطني الفلسطيني الذي شهد تراجعا كبيرا في السنوات الاخيرة وخاصة منذ ثمانينات القرن الماضي. في المقابل عرف التغلغل الاسرائيلي في القارة تطورا كبيرا وتزايد التأثير الاسرائيلي في عدد كبير من الدول الافريقية. وقد اعطى هذا التاثير اكله حيث تمكنت اسرائيل من اعادة العلاقات الديبلوماسية مع عدد كبير من الدول الافريقية .ولعل اهم انتصار للديبلوماسية الاسرائيلية في السنوات الاخيرة حصولها على صفة ملاحظ في مفوضية الاتحاد الافريقي سنة 2021 رغم الجدل الكبير الذي اثاره هذا القرار وموجهة الرفض التي جوبه بها من عديد الدول ومن ضمنها بلادنا .

وقد شكلت الحرب على غزة نقطة تحول وانعطاف كبيرة في المواقف الافريقية تجاه اسرائيل.حيث دعمت عديد البلدان الافريقية الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا امام محكمة العدل الدولية وقد عبر رئيس المفوضية، الافريقي التشادي موسوفكي عن هذا الدعم في القمة الاخيرة المنعقدة في فيفري 2024 حيث اشار في افتتاح القمة أمام القادة الافارقة الى ان «غزة تتعرض للإبادة بشكل كامل ويحرم شعبها من كل حقوقه» وأضاف انه «يشجب العملية الاسرائيلية التي لا شبيه لها في تاريخ الإنسانية. وأكد ان قرار محكمة العدل الدولية «يعد انتصارا لكل الدول المساندة للقضية الفلسطينية». وانهى هذا الخطاب بالتأكيد على ضرورة «ان يتمتع الشعب الفلسطيني بكامل حريته وبدولته المستقلة».

وقد شكل موقف جنوب افريقيا والدعوى التي قامت بها ضد اسرائيل نقطة تحول كبيرة في العلاقة بين اسرائيل والبلدان الافريقية مما قد يؤدي الى تصحيح انخرام موازين القوى في القارة لصالح البلدان العربية .ويمكن لنا تحديد ثلاث مراحل كبرى في هذا المسار التاريخي وفي العلاقة بين اسرائيل والقارة الافريقية .

الاستيطان وبداية العلاقة بين اسرائيل وافريقيا

الحضور الاسرائيلي في افريقيا ليس جديدا بل يعود الى نهاية القرن التاسع عشر .ففي مؤتمر الحركة الصهيونية الذي انعقد تحت رئاسة ثيودورهرتزل في مدينة بازل السويسرية تم تدارس عديد المقترحات لإنشاء وطن قومي لليهود وكانت اوغندا من ضمن المقترحات الى جانب قبرص وبعض دول امريكا اللاتينية واستراليا .

وفي المؤتمر الرابع للحركة الصهيونية والذي انعقد في لندن اقترحت الحكومة البريطانية اعطاء كينيا لبناء هذا الكيان إلا ان هذه المقترحات المختلفة والأماكن المتعددة لإقامة هذا الكيان عرفت نهايتها في المؤتمر السابع للحركة الصهيونية والذي انعقد سنة 1905 والذي قرر جعل فلسطين الاولوية الكبرى لبناء هذا الكيان . وظلت علاقات اسرائيل مع البلدان الافريقية محدودة اثر قيامها بعد قرار التقسيم لسنة 1948.وقد بدأ اهتمام اسرائيل بإفريقيا اثر مؤتمر باندونغ لبلدان عدم الانحياز سنة 1955 والذي عبر عن رفضه للمشروع الاستيطاني الاسرائيلي وعبر عن دعمه لنضال الشعب الفلسطيني وقد حاولت اسرائيل الخروج من هذه العزلة من خلال ربط علاقات مع بعض البلدان الافريقية.

وقد باءت هذه المحاولات بالفشل حيث لم تنجح اسرائيل في ربط علاقات ديبلوماسية إلا مع دولتين وهما ليبيريا وأثيوبيا. وكانت حرب 1967 نقطة انطلاق لعلاقات قوية ومساندة متبادلة بين البلدان الافريقية والبلدان العربية حول قضايا التحرر الوطني .

حرب 1967 والتحالف الاستراتيجي بين العرب وإفريقيا

رغم بعض محاولات اسرائيل للتأثير على الدول الافريقية اثر حصولها على الاستقلال لفك العزلة التي فرضتها عليها مجموعة عدم الانحياز في اسيا وافريقيا عبر عديد قادة حركات التحرر الوطني في القارة الافريقية مثل نكروما في غانا واحمد سيكوتوري في غينيا وامليكار كابرال في غينيا بيساو عن رفضهم لدولة اسرائيل .وقد اعتبر هؤلاء القادة ان اسرائيل هي ذراع الاستعمار والقوى العظمى للهيمنة والسيطرة على المنطقة العربية وافريقيا وبلدان الجنوب وان إسرائيل بالنسبة لهؤلاء القادة امتداد للاستعمار الجديد في العالم الثالث ورفضوا كل محاولات اسرائيل للحصول على عضوية في منظمة الافريقية منذ ولادتها في ماي 1963. كما شكلت سنة 1967 نقطة تحول كبرى في علاقة الدول الافريقية مع اسرائيل وفي بداية تحالف استراتيجي بين افريقيا والعرب .وقد ساهمت ثلاثة عوامل مهمة في هذا التحول الكبير والانعطاف في علاقة الدول الافريقية بالقضايا الوطنية العربية .

يهم العامل الاول الدور الاساسي الخطير الذي لعبته اسرائيل والمعادي لمصالح الشعوب في افريقيا .فقد ايدت اسرائيل ودعمت كل الحركات الانفصالية والمدعمة من الاستعمار في عديد البلدان الافريقية مثل نيجيريا والكونغو وانغولا والموزمبيق. كما ساندت اسرائيل القوى الاستعمارية والانفصالية وقدمت لها الدعم العسكري. كما كانت اسرائيل من الداعمين الكبار لنظام الابارتايد والميز العنصري في افريقيا الجنوبية .ساهمت هذه المواقف لإسرائيل في القارة في تأكيد مواقف قادة الحركة الوطنية، باعتبارها امتدادا للاستعمار والقوى العظمى، في عزلتها على مستوى القارة .

اما العامل الثاني الذي لعب دورا مهما في ولادة التحالف الاستراتيجي بين العرب وإفريقيا في دعم حركات التحرر الوطني في بلدان جنوب الصحراء من خلال فتح مكاتب لهذه المنظمات في كل البلدان وتقديم الدعم السياسي لها وكل اشكال المعونة اللوجستية.

كما لعبت الجزائر ومصر دورا مهما في هذا التعاون من خلال تنظيم لقاءات سياسية ومهرجانات ثقافية ورياضية بين كل البلدان الافريقية. وظل اول مهرجان ثقافي افريقي الذي احتضنته الجزائر سنة 1969 علامة مهمة في تاريخ الانفتاح العربي على المخزون الثقافي الافريقي لتصبح الجزائر على مدار ايام المهرجان قاعة عرض مفتوحة على آمال وأحلام القارة الافريقية .

لم يقف هذا التعاون على المجالات الثقافية بل شمل كذلك المجالات الاقتصادية والتنموية من خلال تقديم الدعم الفني وإرسال الاطباء والخبراء من اطباء ومهندسين في الميدان الزراعي والري من كل البلدان العربية الى البلدان الافريقية .كما فتحت جامعات بلدان شمال افريقيا ابوابها للآلاف من الطلبة القادمين من اغلب البلدان الافريقية والذين ساهموا في تدعيم هذه العلاقة عند عودتهم الى بلدانهم .

كما كانت حرب 1967 العامل المركزي في هذا التحالف الاستراتيجي بين العرب وإفريقيا.وانطلقت هذه الهبة الافريقية لمساندة مصر صباح الخامس من جوان 1967 من غينيا حيث قرر الرئيس احمد سيكوتوري قطع العلاقات الديبلوماسية مع اسرائيل وطرد السفير وكل الخبراء.وأخذت اغلب البلدان الافريقية نفس الاتجاه واعتبرت اسرائيل كيانا عدوانيا. وفي اجتماع القمة الافريقية في الجزائر اخذت البلدان الافريقية موقفا مساندا للقضايا العربية وبصفة خاصة للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية لتجعل منها بندا قائما بذاته في كل القمم الافريقية وكان الرئيس الفلسطيني اول المتدخلين في كل القمم الافريقية .وقد شملت المقاطعة الافريقية لإسرائيل اغلب الدول الافريقية .

يمكن اعتبار الخطوات التي اخذتها البلدان العربية لدعم افريقيا اثر حرب 1973 وقرار حظر تصدير النفط والذي نتج عنه ارتفاع كبير للأسعار العالمية مثالا لهذا التعاون بين القارة والعرب.فقد اعدت سكريتارية منظمة الوحدة الافريقية تقريرا لآثار ارتفاع الاسعار العالمية للنفط وتأثيره على البلدان الافريقية للقمة الافريقية التي انعقدت في موقاديشيو سنة 1974. وقد قدم هذا التقرير بعض المقترحات للتخفيف من تأثير هذا الارتفاع في الاسعار على التوازنات المالية للبلدان الافريقية، ومن ضمن هذه المقترحات يمكن ان نشير الى منح البلدان الافريقية اسعارا تفاضلية او خفض الاسعار وتحويل الفوارق الى برامج للتعاون بين البلدان العربية وافريقيا . وقد لقيت هذه المطالب اذانا صاغية عند البلدان العربية التي بعثت عديد المؤسسات المالية لدعم التنمية في افريقيا ومن ضمنها البنك العربي للتنمية الاقتصادية في افريقيا والبنك العربي للتنمية الصناعية والزراعية في افريقيا والتي قدمت قروضا بفوائد رمزية لمدة طويلة للمساهمة في دعم التنمية في البلدان الافريقية.

وقد شكلت هذه الفترة العصر الذهبي للتحالف السياسي الاستراتيجي والتعاون الاقتصادي والمالي بين القارة الافريقية والبلدان العربية إلا ان نهاية السبعينات كانت نقطة انطلاق التراجع الرهيب في هذه العلاقة وفك العزلة على اسرائيل في المنطقة الافريقية.

نهاية التحالف الاستراتيجي وفك العزلة على اسرائيل في افريقيا

كان لزيارة الرئيس انور السادات لإسرائيل وإمضاء معاهدة كامب دافيد سنة 1979 تأثير كبير على العلاقات العربية – الافريقية اذ فتح الباب للتغلغل الاسرائيلي في القارة لكسر عزلته .

وقد تزامن هذا التطور مع تراجع اهتمام البلدان العربية بالقارة الافريقية وقد فتحت اتفاقات السلام الباب لعودة اسرائيل بقوة لإفريقيا حيث أنها لم تجد ضرورة لمواصلة قطع علاقاتها مع اسرائيل. واثر اتفاقات اوسلو سنة 1993 نجحت اسرائيل في استئناف علاقاتها الديبلوماسية مع 44 دولة افريقية من 54، كما توالت الزيارات الرسمية في اعلى المستويات من القادة الافارقة الى اسرائيل ومن المسؤولين الاسرائيليين الى القارة مثل زيارة اسحاق شامير سنة 1978 وبنيامين نتنياهو سنة 2016 لعدد من البلدان الافريقية . وقد سعت اسرائيل الى تنظيم قمة مشتركة مع الدول الافريقية سنة 2017 والتي وقع تأجيلها في نهاية الامر .

وقد اعتمد التغلغل الاسرائيلي للقارة على ثلاثة عناصر اساسية . يهم العنصر الاول الجانب العسكري او التسليح حيث اصبحت اسرائيل احد المزودين الاساسيين للسلاح للبلدان الافريقية.كما اعتمد هذا التغلغل على الجانب الامني حيث اصبحت اسرائيل احد اهم الداعمين للأجهزة الامنية في العديد من البلدان الافريقية .

اما الجانب الثالث فيهم الخبرة الفنية،وبصفة خاصة في الميدان الزراعي، حيث سوقت اسرائيل لمهندسيها وخبرتهم في الاراضي الصحراوية . وقد شكل حصول اسرائيل على صفة ملاحظ في الاتحاد الافريقي نتيجة لهذا المسار التاريخي للتغلغل الاسرائيلي في افريقيا رغم معارضة العديد من البلدان لهذا القرار والتي من ضمنها بلادنا .

وقد عرف التغلغل الاسرائيلي في القارة الافريقية تطورا كبيرا في السنوات الاخيرة ليقطع مع التحالف الاستراتيجي الذي نجح العرب في بنائه في عقود الدولة الوطنية والتحرر الوطني في الستينات والسبعينات .ومن هذا المنطلق يشكل قرار جنوب افريقيا في رفع الدعوى القضائية والدعم الذي لقيته من عديد البلدان الافريقية ومن المفوضية الافريقية انعطافا كبيرا وتحولا مهما في العلاقات الاستراتيجية مع القارة . وتكمن مهمتنا ومسؤوليتنا اليوم في دعم هذا التمشي من خلال دعم التعاون مع البلدان الافريقية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الاخلاقية من خلال درء الخطر العنصر الذي بدا يتغلغل في بلداننا

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115