كان موضوع افتتاحية كنت قد كتبتها وقرأتها لراديو مونت كارلو الدولية يوم 17 سبتمبر الجاري، أي يومين بعد صدوره، وأن ما استنتجه يختلف تماما عما ورد في الندوة الصحفية للنائب. إذ أن تونس شبه غائبة في هذا التقرير مقارنة مع موضوعه الرئيس أي دول غربي أفريقيا. وبالنظر إلى أهمية الموضوع وحساسيته، ورغبة مني في التأكد من قراءتي الأولى، قمت بمجهود إضافي شمل التأكد من المصادر الأصلية والفرعية ومراجعة مصادر أخرى. وقد سمح لي هذا المجهود المتواضع، بالوصول إلى بعض الاستنتاجات التي تسمح لي بالقول بأن النائب عماد الدايمي وحزبه ربما تعمدا مغالطة الرأي العام من خلال تحويل وجهة تقرير المنظمة السويسرية لأغراض سياسوية حزبية من خلال انتقاء المعلومات أو حجبها أو حتى اختلاقها.
1 - أوحى عماد الدايمي في ندوته الصحفية بأن التقرير يجرم تونس في مسألة استيراد الديزل الملوث والحال أن هذا التقرير تم إعداده على إثر دراسة دامت ثلاث سنوات (2013 - 2015) في 8 دول من غرب أفريقيا هي: الكونغو، زمبيا، أنغولا، السنغال، الكوت ديفوار، البنين، غانا، مالي، حيث تبين أن الديزل يحتوي على نسبة مرتفعة من الكبريت وهو مضر بالصحة العامة. أي أن تونس ليست موضوع التقرير ومن الغريب اعتماد ما ورد فيه للحديث عن الحالة التونسية.
2 - الشركة السويسرية التي يجرمها التقرير أكثر من غيرها هي شركة ترافيغورا (Trafigura) والحال أن أنشطها قليلة جدا في تونس مقارنة مع شركات أخرى (راجع الملخص الفرنسي من التقرير).
3 - لا نكاد نعثر في التقرير على كلمة تونس سوى في الصفحة 17 وبالملحق الأول في الصفحة 135. في الصفحة 17 يقول التقرير بأن شركة ترافيغورا بدأت تجربتها في إنتاج ديزل بأقل تكاليف في ميناء الصخيرة وفي إمارة الشارقة وكذلك في النرويج. وكما ورد في التقرير فإن هذه المعلومة مأخوذة من تقرير آخر كانت قد أعدته سنة 2015 منظمة العفو الدولية ومنظمة السلام الأخضر (غرين بيس) حول الكارثة البيئية في إبيدجان والتي حصلت في سبتمبر 2006. وورد مقطف منه في تقرير بابلك آي في الصفحة 135 حيث نقرأ بأن السلطات التونسية سحبت من شركة ترافيغورا ترخيصها وأوقفت تجربة الغسل الكيميائي في خزانات تابعة لشركة تانكماد (Tankmed) وذلك في بداية 2006. ونستغرب من النائب الدايمي أنه لم يتعرض إلى هذه المعلومة ولم يكن أمينا في نقل محتوى التقرير. وبعودتي إلى تقرير منظمة العفو الدولية ومنظمة السلام الأخضر، على عكس الدايمي وفريقه، وجدت أكثر معطيات حول ما حصل في الصخيرة. حيث تقول المنظمتان (ص 27، 183، 191) بأن شركة ترافيغورا قامت
بعمليات غسل بين جانفي ومارس من 2006. غير أن تسرب غازات سامة في 14 مارس أجبر السلطات على إنهاء نشاط الشركة. فاضطرت بذلك إلى القيام بأنشطها الملوثة في المياه الإقليمية المالطية والإسبانية وفي جبل طارق وهو ما يورط سلطات هذه البلدان. ثم عادت تارفيغورا من جديد إلى ميناء الصخيرة بعد أشهر محاولة تفريغ حمولتها الملوثة فرفضت شركة تانكماد استقبالها. وهو ما أجبرها في النهاية على التخلص منها في أبيدجان أين حصلت الكارثة. لقد تم إذن حظر تقنية الغسيل في تونس منذ سنة 2006 وهذا يتعارض مع ما قاله النائب بأن هذا النشاط استمر لفترة قريبة لم يحددها. كما من الواضح أن تسلسل الأحداث هذا لا علاقة له من بعيد أو من قريب باستيراد «الديزل الملوث» في تونس. هذا يسمى تحويل وجهة تقرير قاصر أمام الحالة التونسية.
4 - أمام شح المعطيات التي قد تخدم رغبة الحراك في هذا التقرير، قال الدايمي في ندوته بأن تقارير المنظمة الدولية للبيئة تؤكد أن الديزل في تونس يحتوي على نسبة عالية من الكبريت تصل ألف مرة أكثر من المعايير الأوروبية مثلا. واعتمد في ذلك على خريطتين، الأولى لسنة 2016 والثانية لسنة 2005 قال أن مصدرهما هو «المنظمة الدولية للبيئة». نعلم سيادة النائب أنه لا توجد منظمة دولية بهذا الاسم بل هناك برنامج الأمم المتحدة للبيئة (PNUE). ومن خلال تقارير هذا البرنامج والخرائط المنشورة على موقعه (unep.org/cleanfleet_database/home.asp) أو (unep.org/pcfv) نرى بأن تونس خرجت من فئة الدول التي تحتوي على نسبة عالية من الكبريت في البنزين (أكثر من 5000 جزء PPM) منذ 2011 إلى معدل أقل بكثير (بين 50 و 500) وهكذا تواصل الوضع حسب مختلف الخرائط إلى اليوم. وبإمكان القراء والصحفيين التأكد من ذلك من خلال البحث على الأنترنت عبر العبارة التالية: diesel Fuel sulfer levels pdf مع كتابة السنة في نهاية العبارة. غير ان
الدايمي وفريقه تغاضوا عن كل ذلك واستعملوا فقط خريطة توزيع هذا البنزين في أفريقيا لشهر جويلية 2016 والتي تبرز فيها تونس بالفعل وعلى غير العادة في مصاف الدول التي تستعمل بنزينا عالي الحمولة من الكبريت (باللون الأحمر). غير أن هذه الخريطة تطرح إشكالا وكان على الدايمي وفريقه التساؤل حولها. ذلك أن خريطة توزيع نوعية البنزين في العالم لشهر جوان 2016 والتي أعدها نفس البرنامج تضع تونس في نفس الوضعية والمعدل كما منذ سنة 2011، أي ذات بنزين له نسبة ضعيفة من الكبريت. وهذا ثابت من خلال خرائط أخرى للمقارنة أعدها البرنامج سواء لأفريقيا أو للعالم. إذ لا يمكن أن يمر بلد من معدل 50 من الجزيئات إلى 5000 في ظرف شهر. وللتأكد أكثر، قمت بمراسلة برنامج الأمم المتحدة للبيئة (قسم المواصلات) في
خصوص هذا الخلل. فكان الجواب (عبر المايل) بأن بنزين تونس له نسبة ضعيفة من الكبريت (لون أزرق على الخريطة) وأن المستورد منه لا يمكن أن تكون فيه نسبة الكبريت إلى منخفضة.
5 - قمت بالاتصال كذلك بأحد الكوادر في شركة عالمية للمحروقات، وكان سابقا إطارا في الشركة التونسية للصناعات البترولية (STIR)كما قمت بزيارة مواقع المؤسسات التونسية المعنية. وتبين لي أن الشركة التونسية للصناعات البترولية هي التي تتحكم في توفير حاجة تونس من المحروقات منذ 1999 وبمعايير جودة أمريكية (ASTM) وذلك إنتاجا (قرابة الثلث) وتوريدا. أي ليس المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP) كما قال النائب (راجع تقارير أنشطها على النت). وحتى في حال وجود ديزل ملوث فإن ذلك لا يعني أنه مستورد بل أن شركة الستير تنتج جزءا منه وهي تتحمل المسؤولية إذن. في نهاية هذه السلسلة تقوم الشركة التونسية لتوزيع البترول، (عجيل)، بتوزيع المحروقات على الشركات التي تمتلك محطات ضخ. كل ذلك يتم تحت رقابة الإدارة
العامة للمحروقات وهي السلطة الحقيقية في هذا المجال وقد كانت تحت إشراف حزب النائب وحلفائه في فترة حكم الترويكا.
لقد كان من الأجدى نقد الإدارة العامة للطاقة فيما يتعلق بتصوراتها وبرامجها للطاقة البديلة، عوض اللهث المهووس وراء الإشاعة والتضليل. وإن صح ما ورد هنا من معطيات فبإمكاننا الحديث أكثر عن سياسة ملوثة تعتمد على الإشاعة والافتعال للعودة إلى الواجهة السياسية، أكثر منه حرصا على عودة القيم والأخلاق إلى السياسة.
بقلم: عادل اللطيفي
(مؤرخ وكاتب صحفي)