فكنا نعيش ونمارس السياسة في سنوات الشباب بمعناها النبيل اذ كانت بالنسبة إلينا جملة من المبادئ والأفكار والقناعات التي نسعى من خلالها إلى تغيير العالم نحو الافضل والأجمل .وهذا الحلم يجد مداه في الفن ايضا والفعل الابداعي الذي يجسد الجمال الذي نرومه ونتمنى الوصول اليه.
كانت اجتماعاتنا السياسة في الفضاءات الجامعية تتواصل بأنشطة فنية في مختلف مجالات الابداع من سينما ومسرح وشعر ومعارض فوتوغرافية وتشكيلية .ومكنتنا هذه العلاقة الوثيقة بين السياسة والفن من التعرف على عديد المبدعين الذين اثثوا الساحة الابداعية منذ نهاية الستينات الى منتصف التسعينات .فقد احتضنت الساحة الطلابية والنقابية عديد المبدعين والفنانين الذين كانوا يعيشون ثورتهم الثقافية على الاشكال الفنية السائدة والتقليدية ليلتقي الابداع الفني والسياسة في نقصهم ورفضهم للواقع والاستبداد الشرقي والموروث الثقافي التقليدي والرجعي .
ومن ضمن المبدعين الذين كانوا يؤثثون الساحة الابداعية في المجال الشعري والذين كانوا نجوم تلك السنوات الجميلة والذين كانوا يشدون ويغرون آلاف الطلاب بقصائدهم الجميلة اذكر شاعر الثورة المرحوم محمد الصغير اولاد احمد وادم فتحي وكمال الغالي ويوسف خديم الله والذي يمضي بسخرية كبيرة منذ مدة بتعريف شاعر سابق .كما احتضنت الفضاءات الجامعية في بلادنا اصواتا شعرية مميزة اخرى اذكر منها المرحوم بلقسام اليعقوبي وعبد الجبار العش والطيب بوعلاق .
ولم يقف هذا الحضور الشعري على الشعراء التونسيين بل فتحت الفضاءات الطلابية السياسة الى اصوات شعرية عربية وقامات ابداعية اذكر منها محمود درويش ومظفر النواب وسميح القاسم واحمد فؤاد نجم .
وقد عبرت هذه الاصوات الشعرية التونسية والعربية عن احلام الشباب في تلك الايام بغد افضل وعالم يسوده التاخي والتعاون.
وكان الشاعر المنصف المزغني فارس الشعراء في نهاية السبعينات من خلال ملحمتين بقيتا في تاريخ المدونة الشعرية التونسية وهي «عياش الكسيبي» والتي صدرت في ديوان سنة 1983 و«عناقد الفرح الخاوي» والتي صدرت هي الاخرى في ديوان سنة 1981.
ولعل ما ميز المنصف المزغني في تلك الايام طريقة القائه الكبيرة والتي كان فيها جانب كبير من الاداء المسرحي والتي كانت تشد اليها المفترج .ثم تميز المزغني بمزجه في ملحماته الشعرية بين اللهجة العامية واللغة العربية الجميلة ومن اهم اعمال وقصائد المنصف المزغني والتي بقيت في الذاكرة قصيدة «لو كان ما يحبونا» والتي قال في مقطعها الأول:
«لو كان ما يحبونا ..
فرنسيس وامريكان ما يزورونا ..
ما يعتبوا تعتيبة ..
وما ينكسو من بيتنا لبيوتهم شبيبة ..
احبونا حتى السلخ
سلخونا ..»
هاته القصيدة من نوع السخرية السوداء للتعبير عن العلاقة الصعبة والمعقدة والتي لم تتخلص في جانب كبير منها من النظرة الاستشرافية والكولونيالية التي تجمعنا بالغرب.
وقد عرفت هذه القصيدة انتشارا كبيرا عند الشباب الثائر في بلادنا بعد ان قام الفنان الكبير المرحوم حمادي العجيمي بتلحينها وتقديمها مع خماسي الموسيقى العربية على ركح مهرجان قرطاج في احدى دوراتها لتعرف منذ ذلك الوقت رواجا كبيرا .ويعتبر الصديق خالد الحمروني احد مؤسسي فرقة البحث الموسيقى للغناء الملتزم المشهورة والتي شكلت محطة مهمة في تاريخ الموسيقى التونسية وشكلت اغنتا «بابور زمر» للمرحوم الهادي قلة و«لو كان ما يحبونا» نقطة انطلاق الغناء الملتزم في بلادنا .
جالت بخاطري هذه الذكريات وعدت الى هذه السنوات الجميلة والمليئة بالأمل في وقت نتابع فيه عاجزين اخبار وصور المجزرة الدموية التي تواصل القيام بها القوات الاسرائيلية على مرأى ومسمع من العالم منذ اكثر من شهرين دون ان نكون قادرين على ايقاف هاته المنهجية المدمرة .
ولعل احدى المسائل المهمة التي تثير الكثير من الجزع والإحباط عند الشعوب العربية هي مواقف اغلب البلدان الغربية والقوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية والبلدان الاوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا .
وقد تابعنا بكثير من الاستغراب والغضب والسخط هذه الدعم اللامتناهي من قبل هذه الدول لإسرائيل. ولم يقتصر هذا الدعم على الدول والنخب السياسية بل تجاوزه الى وسائل الاعلام الغربية من صحف وتلفزات وقفت جلها كرجل واحد الى جانب قوى الاحتلال .
وفي اطار هذا الحشد العالمي الرسمي المساند للمجزرة لابد ان نتوقف عند مواقف عديد الدول الاوروبية مثل اسبانيا وبلجيكيا وايرلندا والتي دعت الى ايقاف هذه الحرب المدمرة كما دعت الى وقف شامل لإطلاق النار والاعتراف بالدولة الفلسطينية.كما يجب الاشادة بمواقف المجتمع المدني والحركات المدنية في عديد البلدان والتي قامت بعديد المسيرات الجماهيرية في الكثير من المدن من واشنطن الى لندن وباريس وغيرها للتنديد بهذه الحرب.
وقد شكلت هذه الحرب فرصة لامتحان ضميرها وفهم أسباب هذا الموقف الغربي والذي قاد الى فقدان الثقة مع العرب وازدياد مخزون الضغينة والغضب الذي يحمله التاريخ المعقد والصعب بين العالمين .
وتقودنا القراءات المختلفة ومحاولات الفهم الى مسالة جوهرية تخص النظرة الغربية للآخر وبصفة خاصة الشرقي منذ ظهور الحداثة والثورات السياسية والاقتصادية التي عرفتها اوروبا منذ نهاية القرن العاشر . وقد هيمنت على هذه النظرة رؤية استشرافية كما اسماها ادوارد سعيد تؤكد على فكرة علوية الثقافة والفكر الغربي على الاخر الغارق في الظلمات والخرافة والذي يعيش تحت سيطرة العنف والاستبداد .
وقد ساهمت العلاقة المتوترة بين العالم الاسلامي وأوروبا والتي قادت الى حروب طاحنة في تدعيم هذه الصورة للشرق عند الغرب .وشكلت هذه الصورة والتصور العرقي للأخر الاطار الفكري والنظري الذي تمت فيه صياغة السياسات التي اعتمدت اساسا على هذا المشروع الذي احدث شرخا بين الانا الغربية المتعالية والآخر المتوحش الغارق في هويته وخرافاته والخاضع لاستبداد حكامه وخضوع الفرد لديكتاتورية الجماعة .
قادت هذه التصورات والقناعة التي رسخها العديد من المفكرين والفلاسفة في الغرب والمؤمنة بتفوقه وعلويته على الآخر الى الكثير من الماسي والجرائم التي كان هدفها «فتح» الآخر على الحضارة والعصرنة. فكانت تجربة الاستعمار المريرة والتي كانت خلافا لما ادعته ابواق الدعاية من اهم تجارب سلب للحرية والاستغلال للآخر ونهب الخيرات .
وقد عرفت هذه الصورة عند الغرب وإطارها الفكري بعض التراجع في السنوات الاولى للدولة الوطنية عندما نالت بلدان العالم الثالث استقلالها .فقد اعطت تجارب التحديث السياسي والاقتصادي الذي عرفتها اغلب بلدان العالم الثالث وبصفة خاصة البلدان العربية على قدرتنا على دخول العصرنة والمبادئ الكونية للحرية وحقوق الانسان كنتيجة لتطور مجتمعاتنا ومساراتها التاريخية دون اعتداءات وعنف مسلط من الخارج .وقد ساهمت عديد البلدان المتقدمة ودعمت تجاربنا التحديثية وفتحت بالتالي الباب للخروج من هذه النظرة النمطية للشرق .
وكان هذا التراجع مؤقتا حيث عادت هذه النظرة المتعالية والاقصائية للثقافات والتجارب الاخرى لتسود المجتمعات الغربية ورمي الاخر في ظلماته واستبداده، وقد ساهمت الاعتداءات الارهابية منذ بداية القرن وتصاعد قوى اقصى اليمين الفاشي في اغلب البلدان الاوروبية في دعم هذه الصورة لتصبح الفكرة النمطية السائدة عن الاخر في الغرب وخاصة في المؤسسات الرسمية. وعادت هذه الصورة في الهمينة ونجحت اسرائيل في تجنيدها لتكون داعمة لها عند الغرب في حربها الدموية على غزة الى جانب ضرورة ايقاف هذه المجزرة والوصول الى وقف اطلاق النار لحماية المدنيين. هذه الحرب ستطرح في قادم الايام عديد المراجعات ومن ضمنها علاقتنا بالآخر وضرورة اعادة بنائها على اسس جديدة اساساها كونية مشتركة ومتكافئة كما يقول الصديق والفيلسوف الكامروني اشيل ميمبي.وهذا التصور الجديد هو الكفيل بالخروج من العلوية التي كانت محل استهزاء الشاعر المنصف المزغني في رائعته «لو كان ما يحبونا» وبناء علاقات قوامها التعاون والتكافؤ في عالم ما بعد العولمة وما بعد غزة .