منذ خروج قوات الثورة من بيروت سنة 1982 اثر الصمود البطولي امام الة الحرب الاسرائيلي والحصار الرهيب الذي مارسته قوات شارفت على المدينة .لم يكن خروج مقاتلي ومنظمات الثورة مجرد تحول جغرافي وميداني بل شكل تحولا وزلزالا سياسيا في مسيرة الثورة الفلسطينية وفي الديناميكية التي ستطبع تاريخ المسار الوطني الفلسطيني .فلأول مرة سيتحول مركز ثقل الثورة والنضال الفلسطيني من الشتات والخارج الى الداخل .
وسيكون لهذا التحول انعكاسات سياسية غير مسبوقة حيث ستتراجع المنظمات الوطنية ذات التوجه القومي والعروبي واليساري كحركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية لصالح الحركات الاسلامية وذات التوجه الجهادي .وفي اطار هذه التحولات والتغييرات الجذرية ستبدأ غزة في اخذ زمام ومشعل المقاومة الفلسطينية لتكون الشوكة الكبيرة في حلق الاستعمار .
وقد دفع هذا الصعود الكبير لغزة ولتحولها الى مركز ثقل المقاومة والنضال الوطني الفلسطيني العدو الاسرائيلي الى العمل بكل قوة وعنف لاطفاء هذه الجذوة في غزة ومخيماتها .وبدا قادة اسرائيل والجيوش يقرأون الف حساب حيث اصبحت تشكل بالنسبة لهم الغول الذي يمنع النوم على اجفانهم .ولعل اسحاق رابين الوزير الاول الاسبق هو الذي عبر عن هذا الارق من غزة عندما قال سنة 1992 لوفد من معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى 'اود ان تفوق غزة في البحر، لكن هذا لن يحدث ،ويجب ايجاد حل ".
وستساهم عديد الاسباب في هذا الصعود لغزة وتحولها الى مركز ثقل للنضال الوطني الفلسطيني ومن ضنها القيمة الرمزية لغزة وقربها من الارض السليبة.كما ستساهم تحولات الحركة الوطنية في هذا الصعود وبصفة خاصة تراجع الخارج مقارنة بالداخل في النضال اليومي .
وسيعرف النضال الوطني الفلسطيني في غزة والضفة الغربية مراوحة بين النضال السلمي والمواطني من جهة واللجوء الى المواجهات العسكرية والنضال المسلح .
- الانتفاضة ،وجه النضال السلمي في غزة
سيتزامن تحول مركز الثقل في النضال الوطني الفلسطيني مع ظهور الانتفاضة الاولى والتي ستعطي للمسيرة النضالية الفلسطينية شكل النضال السلمي .
انطلقت الانتفاضة الاولى سنة 1987 وستعرف مساهمة كبرى وجماهيرية من طرف سكان غزة حيث تلعب القيادة الوطنية الموحدة الانتفاضة دورا اسياسيا في تعبئة اهالي المدينة والمخيمات وفي بدايات تشكل النضال الوطني في الداخل .
وعرفت غزة خلال الانتفاضة الاولى طفرة نضالية وتعبئة كبيرة .فتوالت الاضرابات والمظاهرات في الشوارع والمواجهات اليومية مع دوريات جيش الاحتلال والقاء الحجارة والزجاجات الحارقة .وقد واجه الجيش هذه المظاهرات بالغاز المسيل للدموع والرصاص والإيقافات وفرض حظر التجول .
وقد اخذت هذه الانتفاضة الاولى شكل العصيان المدني السلمي الذي شاركت فيه كل المنظمات التنظيمات الفلسطينية وشهدت فيه حدة كبيرة بين اغلب الفصائل .
وستعود اجزاء كبيرة من غزة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية في ماي 1994 اثر اتفاقيات اوسلو .ولم تبق تحت السيطرة الاسرائيلية الا القرى والكيبوترات الاستيطانية والمناطق العسكرية .وستتولى السلطة الفلسطينية ادارة القطاع حيث سيكون مركزها ومقرها قبل تحولها الى الضفة والى رام الله اثر اتفاقيات السلام الممضاة في 1995 حيث تحولت اغلب المدن تحت سيطرة السلطة الفلسطينية .
الا ان مسار السلام لن يحد من تنامي النضال الوطني الفلسطيني لتندلع الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000.وقد عرفت غزة في هذه الفترة تنامي الاحتجاجات والمظاهرات الا ان هذه الانتفاضة ستعرف ظهور الاشكال الاولى للكفاح المسلح من خلال التفجيرات والعمليات الانتحارية التي ستنظمها حركتي حماس والجهاد الاسلامي .كما ستشهد كذلك هذه الانتفاضة ظهور الهجمات الصاروخية والقصف على البلدان الحدودية في اسرائيل .وسيدفع تصاعد هذه التعبئة الى قرار اسرائيل بالانسحاب الكامل من كامل القطاع في 15 اوت 2005.وانطلقت هذه اللحظة التي ستنتهي في 12 سبتمبر 2005 بانهاء الحكم العسكري .
الا انه مقابل هذا الانسحاب فإن الحكومة الاسرائيلية ستقوم بتطبيق حصار بري وبحري وجوي على قطاع غزة الذي سيقود الى خنق غزة.
وستقود هذه المواجهات بين الجيش الاسرائيلي وحركات حماس والجهاد الاسلامي الى تحول كبير في النضال الفلسطيني حيث سيتراجع الجانب السلمي ليفتح الباب على مصراعيه للعنف والمواجهات المسلحة .
الا انه وبالرغم من تصاعد الجانب العسكري في المواجهة فقد واصلت الحركة الوطنية الفلسطينية في القيام بتظاهرات مدنية لعل اهمها مسيرة العودة في سنتي 2018 و2019. وقد شهدت هذه التعبئة جملة من المسيرات والاحتجاجات كل يوم جمعة انطلاقا من القطاع وتجاه الجدار العازل والتي طالب فيها الفلسطينيون بالسماح لهم بالعودة الى اراضيهم ورفض الحجر المفروض على غزة .
كما عرفت الاراضي الفلسطينية من القطاع الى الضفة والقدس الشرقية انتفاضة رابعة في 2021 من خلال عدد كبير من الاحتجاجات والمظاهرات على خلفية قرارات قضائية باخلاء بيت من حي الشيخ جراح .وقد واجهت القوات الاسرائيلية والى جانبها المستوطنين هذه المظاهرات بقوة الحديد والنار .
لم تترك القوات الاسرائيلية والحكومات المتعاقبة اي مجال للتعاطي مع هذه الحركات السلمية لتفتح المجال لسلطة السلاح والعنف .
- حروب غزة ومسارات العنف والتدمير
ولئن بدا ظهور العنف والمواجهات المسلحة منذ اللانتفاضة الثانية في 2000 فإنها ستتعمق اثر الانتخابات البرلمانية الفلسطينية في 25 جانفي 2006 والتي انتهت بانتصار حماس وحصولها على اغلبية اصوات تقدر بـ%42.9.
وتولت حماس اثر هذه الانتخابات السلطة حيث ستقوم اسرائيل وكل القوى الكبرى وبصفة خاصة الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوروبي وروسيا بالضغط علليها لقبول والاعتراف بكل الاتفاقيات التي امضتها للسلطة الفلسطينية في مسار السلام ورفض العنف والاعتراف بحق اسرائيل في الوجود.
وقد تمنعت حركة حماس والحكومة منم الالتزام بهذه الاتفاقيات والحكومة من الالتزام بهذه الاتفاقيات مما سيفتح صفحة من الاضطرابات السياسية .
وستقود هذه الاضطرابات الى اشتباكات بين حركة حماس وفتح سنة 2007 بالرغم من تواجدهما جناب الى جنب في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة اسماعيل هنية .وستكون هذه الحرب والاشتباكات الى سيطرة حماس على قطاع غزة والهيمنة على كل مؤسسات السلطة .وستكون هذه النزاعات بين اطراف الحركة الوطنية الى حل حكومة الوحدة الوطنية وتكوين حكومة جديدة في الضفة الغربية بدون مشاركة حماس .
وستفتح هذه الفترة الجديدة مرحلة المواجهة المباشرة بين اسرائيل والقطاع .
وستكون اولى هذه الحروب في نهاية 2008 وبداية 2009 حيث سيقوم الجيش الاسرائيلي بغزو بري.وقد ادى هذا الغزو وهذه الحرب الاولى الى نتائج مدمرة من الناحية الانسانية حيث تم قتل 1400 مواطنا فلسطينيا و13 جندي اسرائيلي .وفقد شمل التدمير المؤسسات الصحية والمدارس وكل المرافق من كهرباء ومياه وفلاحة ومؤسسات صناعية .
وستتواصل هذه الحرب مع مواجهة جديدة سنة 2014 حيث ارتكب الجيش الاسرائيلي بعض المجازر ضد الابرياء العزل ومن ضمنها مجزرة الشجاعي .وقد عرفت هذه المواجهة تطورا جديدا لحركات المقاومة واتي تمكنت من ارسال صواريخ الى تل ابيب وعديد المدن الاخرى .
ان هذه القراءة التاريخية تسير الى ان الحرب والعدوان الذي تعيشه غزة اليوم ليس وليد اللحظة بل هو نتاج لمسار تاريخي تحول من خلاله قطاع غزة الى مركز الثقل في النضال الوطني الفلسطيني بعد خروج الثورة الفلسطينية من بيروت ليأخذ الداخل الاهمية الاستراتيجية في العملية السياسية ويعوض هيمنة الخارج .
ولئن انطلق العمل الوطني في الداخل والخارج وأعطى الاولوية للنضال السلمي فإن مجاله عرف تراجعا كبيرا ليأخذ العنف والكفاح المسلح الاولوية ويقود تدريجيا الى حروب دمرت القطاع وآخرها العدوان الراهن على غزة .