يرى مراقبون انّ تغيّر الموقف التركي من سوريا أفرز تغييرات عميقة وتضاربا حادا في السياسات الإقليمية والدولية من الأزمة ذاتها ، لعلّ بوادرها الأولى ظهرت مع نفي تركيا أمس الأربعاء قبولها بأي اتفاق لوقف إطلاق النار مع المقاتلين الأكراد في سوريا مؤكدة انه لا يمكنها أن تقبل «في أي ظرف» بتسوية مع «منظمة إرهابية» وتقصد بذلك الأكراد ، ومُكذّبة بذلك ما أعلنته الولايات المتحدة أمس الأول.
هذا التضارب في التصريحات بين واشنطن وأنقرة تلا توافقا مرحليا بين الطرفين وثالثهما روسيا حول «درع الفرات» التركية في جرابلس بالشمال السوري، حيث انطلقت العملية وفق حكومة أنقرة لاجتثاث تنظيم «داعش» الارهابي والأكراد من المناطق المسيطر عليها . ويرجع مراقبون احد أسباب الاستدارة التركية في سوريا إلى التطورات الميدانية المسجلة في سوريا وتأثر موازين القوى بالدعم الروسي الإيراني لنظام الأسد ، وأيضا -وهو الأهم- التقدّم الكردي الذي حققته القوات الكردية بدعم أمريكي . هذه التغييرات الطارئة على المعادلة السورية فرضت على الأطراف الفاعلة في الشرق الأوسط إقليمية كانت أو دولية مراجعة إستراتيجيتها لتتماشى مع مستقبل المنطقة ومسار التسويات المرتقبة.
في هذا السياق أكد الباحث اللبناني المختص في السياسة الدولية د. رياض عيد لـ«المغرب» أنّ الدخول التركي إلى جرابلس ومحاولة التوسع باتجاه منبج والقرى والمدن الأخرى غرب الفرات، يمثل الحدث الأهمّ الذي أثّر على واقع الأزمة السورية.
وأضاف عيد انّ أردوغان نجح في إقامة تفاهمات مع موسكو وطهران بعد القمة التي عقدت بينه وبين الرئيس فلاديمير بوتين في سان بطرسبورغ ، حيث تمت مناقشة عملية «درع الفرات» رغم نفي الطرفين التطرق إلى الأزمة السورية بشكل مطول. وأشار الباحث اللبناني إلى زيارة حسين جابري أنصاري مساعد وزير الخارجية الإيراني إلى أنقرة عشية انطلاق العملية العسكرية حاملا معه مُباركة طهران ومذكرا الأتراك بما عليهم من التزامات، وراجع معهم حدود التدخل المتفق عليه مما يعني أنّ أنقرة حصلت قبل الهجوم على موافقة كافة الأطراف الإقليمية والدولية على حدّ تعبيره.
وفي السياق ذاته اعتبر محدّثنا أنّ طهران تدفع كلا من دمشق وأنقرة للعودة إلى التنسيق الثلاثي الذي ثبّتته الأطراف الثلاثة في منتصف تسعينيات القرن الماضي لمنع قيام أي كيان كردي ، وهي الآن تُحاول استئناف ذلك لدرء الخطر القريب منها.
وأكد عيد انّ اللّقاءات الأخيرة بين الأتراك والروس والإيرانيين بحثت هذه الخطوة في سلسلة متكاملة، تهدف لترتيب الميدان السّوري تمهيدا لدفع عجلة الحلّ السياسي وفق رؤية جديدة. وعن تغيّر السياسات الإقليمية في سوريا نتيجة الخطوة التركية الأخيرة أجاب د.رياض عيد» قبل الدخول التركي احتدم قتال بين قوات الحماية الكردية والجيش السوري في الحسكة -وهذا كان بإيعاز أمريكي للدفع إلى معركة جانبية لتخفيف الضغط عن حلب ولإقامة الكيان الكردي كبداية لتقسيم سوريا والمنطقة وفق رؤية برنار لويس ورالف بيترز ومخططات إسرائيل، بالتالي إنّ إقامة كيان كردي يعني تقسيم سوريا والعراق وبلقنة المنطقة، كما أنّ الكيان الكردي يشظّي إيران وسوريا والعراق وتحديدا تركيا لذلك هناك مصلحة بين هذه الدّول في الإقليم وروسيا لمنع قيام مثل هذا الكيان وتقسيم المنطقة».
واعتبر محدّثنا أنّ هذه الفرضية كانت سببا للتفاهم بين تركيا وإيران وروسيا والعراق وسوريا ، حيث ألزمت تركيا إجهاض هذا الكيان مقابل التموقع مع محور المقاومة بإقفال حدودها بوجه تنظيم «داعش» الارهابي والتموقع مع روسيا وإيران وسوريا في ضربه إلى جانب التنظيمات الأخرى على غرار جبهة «النصرة».
أدوار جديدة
التموقعات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط خصوصا الدور التركي لاشكّ في أنه ستكون له تداعيات على باقي أطراف المعادلة ونقصد بذلك أمريكا والمملكة العربية السعودية وبشكل اقل قطر. وفي هذا الإطار شدّد الباحث والكاتب اللبناني أنّ التفاهم المطروح والذي قضى بمنع قيام كيان كردي مقابل إنتاج حل إقليمي ، ساهم في إرباك حسابات كل من الرياض وواشنطن وأيضا قطر، مشيرا إلى انّ اجتماع كيري لافروف في فينا منذ يومين كان فاشلا ولم يتفقوا على الحل في سوريا بسبب استمرار أمريكا في المراهنة على القوى التكفيرية في سوريا.
وأكد عيد أنّ «الحلّ في سوريا سيأتي على حساب السعوديّة ودُول الخليج ، أما إيران فهي شريكة في الحلّ وفي الترتيبات الإقليمية التي تحصل الآن ، هناك مشهد إقليمي جديد بدأ يتشكّل ، إن لم تستدرك أمريكا نفسها وتقيم ترتيبات مع موسكو ستكون خارج المشهد ، وستُقطع أذرع السعوديّة ودول الخليج في سوريا والعراق عبر سحق القوى التكفيرية المحسوبة عليها ، المؤكد هنا هو أنّ أمريكا ستلتحق بهذه الترتيبات لكنّها تناور لأخذ حصص أكبر في التّسويات مع روسيا في وسط أسيا وأوكرانيا والشرق الأوسط.وإلا ستحلّ تركيا مكانها في هذه الترتيبات في سوريا والعراق».
الأكراد وحلم إقامة الدولة
وعن تأثير التغيرات الأخيرة على الأكراد أجاب محدّثنا أنّهم سيدخلون في حرب استنزاف كبيرة ضدّ تركيا في الشمال السوري ،مؤكّدا انّ حلم الدولة الكردية قد تبخّر مجدّدا في لعبة الأمم واللعبة الإقليمية نتيجة رهانهم على الطرف الأمريكي. وتابع عيد «الأكراد تنكر لهم الفرنسيون والانقليز بعد الحرب العالمية الاولى عام 1920 في معاهدات سيفر ودفعوا ثمنا باهظا، والآن يتكرر المشهد بعد مئة عام، الآن يجب على الأكراد أن يعودوا إلى حضن الدولة السورية والعراقية وترتيب أوضاعهم مع أبناء المنطقة» .
مصالح ومُعادلات جديدة
يرى مراقبون أنّ المتغيرات المتسارعة في الشّرق الأوسط تدفع المنطقة نحو واقع جديد بمصالح جديدة وتحالفات جديدة أيضا ،من جانبه اعتبر الباحث اللبناني د.رياض عيد انّ التغيرات تتوقف على مدى صدق أردوغان وتموقعه في المشروع الإقليمي للشرق الأوسط .
وحذّر محدّثنا من إمكانية دخول الشرق الأوسط حرب استنزاف بين تركيا والأكراد ممّا يجعل أردوغان ملزما بالاستنجاد بالطرف الروسي والإيراني للخروج من المأزق. وأكد عيد أن مصلحة أردوغان هنا تكمن في تنفيذه التفاهمات الإقليمية التي سمحت له بالدخول لضرب الدولة الكردية والحفاظ على وحدة تركيا التي باتت مهددة من الحلم الكردي كما سوريا والعراق.
واعتبر محدّثنا أنّ «الشرق الأوسط الجديد الذي ترسمه روسيا وإيران هو جزء من الحلم الاوراسي باستراتيجية الرئيس بوتين وفيلسوف الاوراسيين الجدد الكسندر دوغين، والذي يقوم على انّ الهلال الخصيب هو قلب هذا المحور وبوابته إلى أوروبا والذي عليه احتواء تركيا واستعادتها لهذا الحلف، واعتقد أن هذا ما يتحقق الآن. وبهذا يستكمل الرئيس بوتين أوراسيا الأسيوية ككتلة جيوسياسية إستراتيجية واقتصادية سترسم معالم القرن الجديد».