وحيث أنه لا استقرار ولا ثبات دائمين فإن سنة التغيير هي الغالبة ولذلك تسود شعوب وحضارات ثم تتلاشى لتظهر حضارات أخرى جديدة، وهكذا دواليك طالما استمرت الحياة على كوكب الأرض، لأن صفة التغيير في هذا الكون هي السائدة دوما وليس هناك ثبات واستقرار بالمفهوم المطلق وشواهد التاريخ تحكي لنا ذلك بجلاء ووضوح.
ما يجري الآن من حرب في أوكرانيا بفعل الهجوم الروسي عليها يأتي في إطار هذا النسق الكوني المجبول على التغيير المستمر، ولهذا علينا النظر إلى هذه الحرب بأنها ليست مجرد حرب بين دولتين جارتين تتنازعان حول مطالب معينة لكل منهما، فهي حرب عالمية ولا شك، ويمكن لنا أن نطلق عليها «الحرب العالمية الثالثة»، ذلك أن الحرب التي تجري الآن ليست تقليدية وليست محصورة بين الدولتين إنما هي ممتدة وتشمل القوى العظمى في العالم بأسره.
إنها حرب بالوكالة بين روسيا التي تمثل المعسكر الشرقي من جهة وأوكرانيا التي صيّروها ممثلا للمعسكر الغربي رغما عن انفها، في غياب قيادة حكيمة تستقرئ مجريات السياسة ومتغيراتها، لهذا لا غرابة في هذا الدعم السخي من الغرب لأوكرانيا لأنه يعتبرها خط الدفاع والمواجهة المتقدم للغرب ضد الغريم والخصم المعسكر
الشرقي والذي تمثله روسيا. لن يتردد الغرب بزعامة أمريكا في تقديم كل دعم مادي وعسكري لأوكرانيا مهما بلغت التكاليف، في المقابل سوف لن يزج بجندي واحد من أمريكا ودول الغرب في هذه المعركة الطاحنة طالما هناك من يموت بالنيابة عنهم من الشعب الأوكراني المغلوب على أمره.
الثابت أن العالم بعد هذه الحرب سيكون مختلفا وستتغير موازين القوة حتما، عالم ما بعد حرب أوكرانيا لن يكون ذا قطب واحد وسيكون متعدد الأقطاب، أمريكا ستفقد سيطرتها اقتصاديا وعسكريا وستبرز الصين وروسيا كمنافسين لها، العلاقات بين دول العالم ستتغير وستتشكل موازين قوة اقتصادية وعسكرية جديدة ستجعل من أمريكا والغرب مجرد جزء من القوى لا التي كانت مسيطرة ومنفردة، العالم سيشهد تغيرا واضحا في السياسة والجغرافيا وتقاطع المصالح وستبرز دول جديدة كانت مغمورة في معترك السياسة والإقتصاد وحتى في القوة العسكرية والتسليحية.
عالم ما بعد أوكرانيا أتوقع أن يكون أكثر عدلا مما سبقه وسيعاد توزيع كراسي مجلس الأمن للأعضاء الدائمين وتدخل دول جديدة مثل ألمانيا واليابان والهند ومصر وجنوب إفريقيا وغيرها، عالم ما بعد حرب أوكرانيا سيكون أكثر انفتاحا على دول وشعوب كانت تعتبر من الدرجة الثانية وسيعاد فيه رسم خارطة العالم السياسية والإقتصادية والعسكرية بشكل جديد ومختلف، والذي يجب التركيز عليه الآن هو مدى قدرة حكومات العالم على قراءة هذه الأحداث وكيفية التعامل معها والمشاركة الفاعلة في عملية إعادة صياغة العالم الجديد لضمان أن تكون محسوبة، أما الدول التي تتخلف عن الحضور والمشاركة في المطبخ العالمي ستجد نفسها خارج نطاق التغطية ويكفيها أن تشتم رائحة الطبيخ دون ان تذوقه أو تراه.