أدت الى توتر العلاقات دون سابق انذار بين البلدين الشقيقين . ووصف قرداحي الحرب في اليمن بالعبثية، ودعا الى ايقافها، ورأى أن ما يفعله الحوثيون دفاع عن النفس، جاء ذلك في تصريحات أدلى بها ضمن حلقة من برنامج «برلمان شعب» جرى بثها مؤخرا. ورغم تأكيد وزير الاعلام بان هذه التصريحات كانت سابقة لتوليه منصبه وبأنه ملتزم بسياسة الحكومة الا ان ذلك لم يشف غليل الرياض -والتي يرى عديد المتابعين- بأنها كانت تبحث عن أبسط الذرائع لطي صفحة مشرقة من العلاقات المزدهرة مع لبنان في مختلف المجالات، وليتحول هذا البلد الذي طالما كان وجهة السعوديين الأولى الى أشبه بعدو وخصم للرياض.
فقد استدعت السعودية سفيرها في لبنان احتجاجا على تصريحات قرداحي كما طلبت كل من الرياض والمنامة من السفير اللبناني لديها المغادرة خلال الـ48 ساعة القادمة، بينما طالب رئيس وزراء لبنان نجيب ميقاتي، قرداحي بتقدير المصلحة الوطنية.
سياسة دبلوماسية جديدة؟
ويؤكد جل العارفين بخبايا السياسات السعودية في المنطقة بأن الرياض تواجه اليوم أزمات بالجملة جراء تداعيات الحرب الدائرة في اليمن...هذه الحرب التي انطلقت قبل سنوات تحت شعار حماية الأمن القومي السعودي من خطر الحوثيين، وقد تعرضت الى انتقادات عديدة من قبل عديد الدول بسبب القصف الذي طال المدنيين. لكن يبدو ان هذه المواقف لم تؤد الى رد فعل شرس وقوي أدى الى سحب السفراء كما حصل مع لبنان الذي تحول الى الدائرة الأضعف التي يرمي اليها الجميع بسهامه . فهذا البلد الهش حوله ساسته طوال العقود الماضية الى ساحة خارجية للمعارك الإقليمية والدولية . وهاو هو اليوم يدفع مجددا ثمن التوتر والخلاف السعودي الإيراني المتفاقم منذ عقود .
يشار الى ان العلاقات اللبنانية السعودية لطالما امتازت بالمتانة وقد أرسى أولى معالمها الرئيس اللبناني كميل شمعون الذي كان أول الرؤساء اللبنانيين الذين زاروا المملكة العربية السعودية، بعد تسلمه سدة الحكم عام 1952 على رأس وفد رسمي رفيع. وكان ذلك بمثابة الجسر الأول الذي ربط أمتن العلاقات مع الرياض والتي استمرت لسنوات طويلة استعانت خلالها المملكة بالخبرات اللبنانية كمستشارين وخبراء واداريين في مختلف المجالات والذين ساهموا -إضافة الى كفاءات عربية أخرى- في صنع النهضة السعودية بامتياز .
وكانت هناك أسماء لبنانية لامعة على غرار المهندس اللبناني موريس الجميل، الذي أشار بإنشاء السدود والبحيرات الاصطناعية لتوفير مياه الأمطار في موسم الشتاء وذلك كعلاج لمشكلة شح المياه التي تعاني منها المملكة.
أزمات متنقلة
وقد دخلت الرياض مرارا على خط الأزمات المشتعلة في لبنان من أجل العمل على اطفائها ومد يد العون للبنانيين، فقد احتضنت مؤتمرات عديدة على غرار مؤتمر القمة السداسي الذي انعقد في الرياض عام 1967، بمشاركة زعماء السعودية ومصر وسوريا والكويت ولبنان، بالإضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الهدف المباشر للمؤتمر معالجة أحداث القتال الجارية في لبنان بين اللبنانيين أنفسهم وبين بعض اللبنانيين والفلسطينيين. ولعل نقطة الضوء الأكثر وضوحا كانت «اتفاق الطائف» الذي احتضنته الرياض وكان عاملا رئيسيا في إطفاء لهيب وحرائق الحرب اللبنانية الأكثر قتامة ودموية في تاريخ المنطقة .
اقتصاديا، للسعودية ثقل كبير في هذا المجال اذ تمثل الاستثمارات السعودية في لبنان حوالي 40 % من الاستثمارات العربية. كما يعد لبنان في المرتبة 40 من بين الدول التي تُصدر لها المملكة السلع فيما يحل بلد الأرز في المرتبة 46 في الدول التي تستورد منها المملكة. علاوة على ذلك فان المملكة تحتضن أكبر الجاليات اللبنانية المغتربة في الخارج والتي تعد أكبر جالية عربية مستثمرة داخل المملكة، كما أن المستثمرين اللبنانيين فيها يتجاوزون 600 مستثمر تتركز جل استثماراتهم في أعمال المقاولات، والإنشاءات، والديكورات، وبعض الصناعات.
الأكيد ان لبنان لا يتحمل هذا التأزم الجديد لا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا سياسيا، والاكيد ان تاريخا كاملا وعريقا من العلاقات المتميزة بين البلدين لا يُمحى بتصريحات سابقة لوزير اعلام لبناني تجاه الرياض -بغض النظر عن صوابها او خطئها – ولا يتحمل وزرها شعب أكمل يعاني من تبعات «حصار قيصر» على سوريا ومن تمترس عدو صهيوني يتربص به ولا يكف عن توجيه الاعتداءات عليه .
واليوم هناك محاولات داخلية لحل الأزمة عبر دعوة مجموعة من رؤساء وزراء لبنان السابقين وزير الإعلام جورج قرداحي للاستقالة . وقد اكد بيان رؤساء الحكومة السابقين فؤاد السنيورة وسعد الحريري وتمام سلام إن آراء قرداحي ضربة للعلاقات الأخوية والمصالح العربية المشتركة التي تربط لبنان بالدول العربية، وتحديدا مع دول مجلس التعاون الخليجي. إضافة الى ذلك أعربت جامعة الدول العربية في بيان لها إن الأمين العام أعرب عن بالغ قلقه حول التدهور السريع في العلاقات اللبنانية الخليجية.
ويبقى السؤال الى أين يسير هذا التأزم وما الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون الذين جعلوا بلدهم رهينة للخارج وللصديق قبل العدو؟ وهل تمتلك اليوم الدبلوماسية السعودية الرصانة والحكمة للجم هذا الغضب بالروية والعقلانية بعيدا عن مبدإ الانتقام المجاني؟ وان تضع حدا لتدهور العلاقات» مع بلد عربي شقيق معروف بتنوعه الطائفي والديني منذ تأسيسه، وذلك لتحييد لبنان وشعبه عن خلافاتها وأزماتها الدبلوماسية المتفاقمة مؤخرا في المنطقة خاصة مع طهران ؟.
ويتخوف البعض اليوم من ان تؤدي الأزمة الحالية الى مزيد من التفرقة والانقسام بين القوى اللبنانية وداخل المجتمع اللبناني . لكن هل حفظ اللبنانيون الدرس بعد 15 عاما من الحرب الأهلية المدمرة التي انطلقت سنة 1975 وانتهت سنة 1989 وأعادت بلدهم واقتصادهم عقودا الى الوراء ؟... وهل آن لهم ان يدركوا بانه لا يمكن لطائفة او حزب ان يسيطر او يتحكم بمصير بلد كامل وان الرهانات للخارج ليست قدرا محتوما على بلدهم ؟.
ان فك التبعية صناعة لا يملكها اللبنانيون اليوم وهم في أوج أزمتهم وانهيارهم ...بل يحتاج هذا البلد في هذا الظرف الصعب الى أفضل العلاقات عربيا وإقليميا وغربيا لبناء ما تدمّر اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا . والى إعادة النظر في السياسة اللبنانية الخارجية التي يجب ان تُبنى على مبنى الحياد الإيجابي وعدم الارتهان للخارج شقيقا كان او عدوا . فهل ينجح ميقاتي في تثبيت «سياسة النأي بالنفس « عن الحروب الدائرة في دول الجوار لكي يخرج بلده من محنته ؟
في عهد الرئيس شمعون والملك عبد العزيز آل سعود تمّ وضع أسس هذه العلاقات بين بيروت والرياض...واليوم تحتاج العلاقات بين البلدين الى ميثاق جديد وهذا يتطلب وجود زعماء من طراز استثنائي ونادر في زمن المساومات الإقليمية الصعبة .