وإعتبار عزله إنقلاباً عسكرياً قاده السيسي، واستمرار في مهاجمته للنظام المصري في كل مناسبة يحضرها، وكانت الحكومة التركية تلقي بتصريحات ضد الأحداث السياسية بمصر، وتنفي شرعية الحكم باستمرار، مما أشعل حالة من الإحتقان بين مصر وتركيا.
لكن تركيا، بعد المصالحة المصرية القطرية برعاية السعودية، وبعد ان سبقتها الولايات المتحدة وعدد كبير من دول العالم، أصبحت تركيا الوحيدة التي تمارس سياسة العناد والمكابرة مع مصر، مما وضع أنقرة في موقف عزلة، وأعطى إنطباعات بأنها خارج الزمن. فالنظام المصري رسخ وجوده ونجح خلال فترة قصيرة في تثبيت أقدامه على مستويات متعددة، بالتالي أي حديث عن إنقلاب أو ترويج لشرعية مزعومة، سيكون من غير المجدي، خاصة وأن الكثير من دول العالم لم تتأخر في توثيق وتمتين علاقاتها مع مصر، وهنا نتساءل عن إمكانية سعي تركيا للمصالحة بعد بقائها وحيدة بين دول المنطقة، خاصة وأن المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن أبدى رغبة أنقرة في إعادة العلاقات مع مصر بعد سنوات من القطيعة.
لكن الشروط السياسية المتبادلَة تقف بدورها عثرة أمام تطبيع العلاقات التركية – المصرية، وفي مقدّمة تلك الشروط، اعتراف الرئيس أردوغان، بنظام حكم نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، والتوقف عن وصفه بالانقلابي. كذلك، تطالب مصر بوقف أنشطة جماعة “الإخوان المسلمين” في تركيا، ولا سيما في المجال الإعلامي، حيث تحولت أنقرة إلى أقوى منصة
“إخوانية” مناهضة للسيسي. كما يختلف البلدان على الوجود العسكري التركي في ليبيا، حيث تطالب مصر بانسحاب الأتراك، الذين كان لهم دور فاعل في إلحاق الهزيمة بقوّات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، المدعوم من قِبَل القاهرة. ولعلّ المصالحة الخليجية بين السعودية وقطر، وتَحفظ الإماراتيين والمصريين عليها مما أسهم في إعادة مصر النظر في علاقاتها مع دول أخرى، ومنها تركيا.
في هذا السياق يعتبر التقارب المصري – التركي مهما للغاية، إذ به تكسر تركيا عزلتها الإقليمية، كما تقوّي يدها في مسألة الحدود البحرية في شرق المتوسط. فمصر دولة لها علاقات متوازنة مع معظم الدول، مثل “إسرائيل” وروسيا والولايات المتحدة واليونان، وبذلك سيغيّر الانفتاح المصري على تركيا المعادلات والتوازنات في المنطقة.
فلا شك أن هناك مصالح مشتركة واضحة لكل من مصر وتركيا في إعادة بناء علاقة طبيعية تزيل آثار الماضي وترتكز على أساس توازن المصالح، حيث تعّول تركية على العلاقات الاقتصادية والتجارية مع مصر التي يمكن أن تؤسس لتجاوز الأزمة الحالية القائمة بينهما مع الإشارة إلى أنه يوجد في مصر الآن حوالى 3500 تاجر تركي، كما أن المركز الثقافي التركي، “يونس إيمره”، لا زال مفتوحاً، حيث قدمت تركيا في فترة ما قبل وباء كورونا الكثير من المغريات للقاهرة، مثل زيادة حجم التجارة الثنائية والاستثمارات وواردات الغاز، وبالتالي فإن لغة المصالح ستحسم في النهاية الأزمة القائمة بينهما وأن حالة التوترات السياسية لن تطول مما من شأنه أن يصب في مصلحة مسار العلاقات بين هذين البلدين اللذين لهما وزنهما وثقلهما في المنطقة.
إن إحتمالات المصالحة بين مصر وتركيا باتت قوية نتيجة العزلة التي تعاني منها إسطنبول عقب المصالحة المصرية القطرية، مما سيشعر تركيا بأن الممول والداعم للإخوان المسلمين المقيمين على أراضيها تخلى عنهم، وسيظل إحتمال المصالحة قائما بشكل كبير، فالمعارضة التركية ورجال الأعمال سيشكلون وسيلة ضغط على أردوغان ليسعى إلى المصالحة مع مصر، وإنطلاقاً من ذلك لن تجد القيادة التركية طريقاً تلجأ إليه سوى التهدئة، والدخول في نموذج شبيه بالسيناريو القطري، لتتجنب الوقوع في عزلة إقليمية، وتتحاشى سلسلة من الخسائر الإقتصادية، ولعل تلميح أنقرة حول ضرورة إزالة التوتر مع مصر، ينطوي على إشارة بالغة في هذا السياق يفهم منها التمهيد للإقدام على تحركات تتجاوز التلميح إلى التصريح.
بإختصار شديد يمكن القول: إن المتابع لسياسات وتصريحات القيادة التركية في ما يتعلق بالشأن المصري، يدرك أن حديث “قولن” لا يبتعد عن النهج الذي تتبعه تركيا في كل مرة تضيق بها الأوضاع، إذ يفضل أردوغان الجنوح نحو التهدئة والمصالحات عندما يستشعر أن الأمور بدأت في الإفلات من يده وبذلك تبدأ العنتريات التركية بالسقوط. وهنا نتساءل: هل سيدفع أردوغان و تركيا حساب ما فعلوه تجاه مصر؟ أو سيغير النهج ويعود الى الحضن المصري؟ والإجابة عن هذا السؤال ستظهر في الأيام والأسابيع القادمة والخاسر دائماً هو من يدفع الثمن.