مجموعة أخرى من بلدان أمريكيا اللاتينية في أزمة شعبية حادة هددت الأمن و الاستقرار في تشيلي و بوليفيا و الإيكواتور و كولومبيا في حين شهدت بلدان أخرى تغييرا في تركيبة السلطة بانتقالها إلى المعارضة في الأرجنتين. و أدت الانتفاضة في بوليفيا إلى استقالة و فرار الرئيس إيفو مورالس و لجوئه إلى المكسيك. هذه الأزمات المتتالية أدخلت منطقة جنوب القارة الأمريكية في دوامة العنف و العنف المضاد دون أن يظهر أي تطور ملموس نحو نوع من الاستقرار.
وسجلت مختلف المظاهرات في جل البلدان أعمال عنف و تخريب وردا أمنيا عنيفا أدى إلى مقتل عشرات المتظاهرين. وعمدت السلطات إلى إقحام قوات الجيش في الأزمة مثلما حصل في تشيلي و في بوليفيا حيث قامت القوات المسلحة بردع المتظاهرين و إطلاق النار عليهم مستعملة الذخيرة الحية. الحالة في تشيلي لم تشهدها البلاد منذ الإطاحة بنظام الجنرال بينوشي الدكتاتوري في بداية تسعينيات القرن الماضي مما جعل بعض الملاحظين يشيرون إلى الدور الفعال للإدارة الأمريكية في هذه التقلبات.
انتفاضة على سياسات التقشف
في كل من تشيلي و كولومبيا والإيكوادور نفس السيناريو أدى إلى نفس النتائج. رفع في رسوم تذاكر النقل و أسعار المحروقات أدى إلى مظاهرات عارمة وتنظيم إضرابات من قبل جل النقابات. و كان الشباب من الطلبة و العاطلين عن العمل في تشيلي و كولومبيا في طليعة المتظاهرين خرجوا ينددون بتوخي سياسات ليبرالية لا تخدم مصالح الشعب وترتكز على مقولات صندوق النقد الدولي. في الإيكوادور قاد الحراك الشعبي تنظيمات السكان الأصليين في الأرياف الذين تمكنوا من فرض إرادتهم على الحكومة التي تخلت على رفع الأسعار لضمان الإستقرار والأمن. لكن في تشيلي لم يكن الحراك منظما بل شاركن فيه جل القوى الشعبية غير المنظمة حسبيا ونقابيا. ودخلت النقابات في إضراب عام جعل الرئيس سيباستيان بنيرا «يعتذر» عن اعتباره المظاهرات «دخولا في حالة حرب» ويقرر تباعا إعاقة ثلاثة من وزرائه وتغيير الحكومة، لكن ذلك لم يكف لحل الأزمة التي لا زالت متواصلة .
وطالب المتظاهرون بتغيير المنوال الاقتصادي و إعطاء سياسات الدولة نهجا اجتماعيا يخدم الإنتاج العمومي و التضامن الاجتماعي و يحد من سلطة القطاع الخاص المهيمن على سياسات الدولة. و تزامن هذا المطلب مع طلب سياسي يرفع لأول مرة وهو الخروج من السياسات المتبعة منذ دكتاتورية الجنرال بينوشي والتي فقرت الشعب وعمقت الفروق الاجتماعية. وبالرغم من الإجراءات المتخذة من قبل الرئيس بنيرا فإن الحراك لا يزال متواصلا وبدأ يأخذ نهجا سياسيا يمكن أن يؤدي إلى تأزم أعمق للأزمة.
نفس السيناريو تم تسجيله في كولومبيا التي دخلت هي الأخرى في أزمة اجتماعية ضد قرارات الرئيس إيفان ديوك برفع الأسعار. وعمدت السلطات إلى فرض حالة منع التجوال وإعلان حالة الطوارئ في المدن الكبرى كالي ومانيزالس وقرطاجنة. وتظاهر مئات الآلاف من المواطنين ضد القرارات الرئاسية في عملية غير مسبوقة في تاريخ البلاد. على صعيد آخر، قرر الناخب الأرجنتيني معاقبة الرئيس ماوريتسو ماكري وانتخاب معارضه «البيروني» ألبرتو فيرننديز ونائبته الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنار على خلفية مقاومة سياسات صندوق النقد الدولي.
إستقطاب سياسي مبرمج
المشهد في بوليفيا الذي انطلق من رفض المعارضة اليمينية إعادة انتخاب الرئيس إيفو مورالس كرس استقطابا سياسيا مبرمجا في جل بلدان أمريكا اللاتينية تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فبعد فرض البيت الأبيض لعقوبات على نظام الرئيس نيكولاس مادورو وخاصة على العسكريين الذين لهم ارتباط باستغلال النفط، عمدت السلطات الأمريكية إلى التدخل لمساندة المعارضة المحافظة في بوليفيا عبر كنيسة المبشرين.
وإثر تولي نائبة رئيس مجلس الشيوخ جانين أنياز مقاليد السلطة، بعد استقالة إيفو مورالس، بدعم من الجيش و قوات الأمن، أعلنت مباشرة مساندتها لتوجهات الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو والذي يشاطرها نفس السياسة اليمينية الراديكالية و نفس التوجه الديني مكرسة بذلك استقطابا جديدا في أمريكا اللاتينية. وحسب عديد التقارير لم تتأخر الأجهزة الأمريكية عن دعم الدعوة التبشيرية في جل بلدان القارة وتقديم المساعدات لتنظيماتها في المدن والأرياف من أجل تغيير جذري للخارطة السياسية وتحويلها لمساندة الإستراتيجيات الأمريكية في المنطقة.
تواصل الحراك الشعبي في تشيلي وكولومبيا وبوليفيا يدخل، حسب عديد التقارير الإستراتيجية جاء في إطار الصراع الذي تشنه الإدارة الأمريكية ضد القوات اليسارية والتقدمية في جنوب القارة الأمريكية والذي ساد في النصف الأول من القرن الماضي من خلال سياسات البيت البيض الداعمة للدكتاتوريات. إعادة نفس السيناريو مع إدارة دونالد ترامب يدخل المنطقة في تقلبات إضافية يصعب التنبؤ بما سوف تؤول إليه في الشهر القادمة لما للاستقطاب من حدة في عدة بلدان من أمريكا الجنوبية.