طوال الأيام الماضية وتصاعدت ليلة اول أمس لتبلغ ذروتها مع لجوء البعض الى اغلاق الطرقات وإشعال الإطارات المطاطية ...وأفضت محاولات فضّ الاحتجاجات الى جرح العشرات وسط مخاوف من الفوضى وتحويل الانتفاضة الشعبية السلمية عن وجهتها ...
فلأول مرة يخرج شعب الأرز في انتفاضة غضب غير مسبوقة ضد كل الطبقة الحاكمة. ولأول مرة لا يرفع إلا العلم اللبناني فيما غابت الأعلام الحزبية ورفعت هذه المرة صور كبار الزعماء السياسيين وزعماء الطوائف ولكن للمطالبة برحيلهم ومحاسبتهم على الأزمة المعيشية والاقتصادية غير المسبوقة التي تشهدها البلاد وتزايدت حدتها خلال الأسابيع الماضية .فالمتظاهرون ينتمون الى مختلف الشرائح والطوائف اللبنانية من العريضة شمالا الى الناقورة جنوبا ، تدفعهم هواجس القوت اليومي وهمومه.
وفي الحقيقة فان هناك حالة من الاستياء الكبير في الأوساط اللبنانية خاصة الشباب نتيجة الوضع الصعب وارتفاع نسب البطالة التي وصل معدلها الى 37 بالمائة بين الشباب أقل من 35 عاما بحسب آخر الاحصائيات. وساهمت الحرائق التي اجتاحت لبنان الأخضر قبل أيام في تأجيج الغضب والذي عرف ذروته مع الضرائب الجديدة المفروضة على تطبيقات «الوتس اب» وبعض البرامج الاتصال الالكترونية.
و تبادل السياسيون الاتهامات وحمّل كل طرف الطرف الآخر مسوؤلية كل هذه الأزمات ، وفي خطاب رئيس الحكومة الحريري أعلن خلاله امهال شركائه في الحكومة 72 ساعة للتوقف عن تعطيل الإصلاحات وإلا فسوف يتبنى نهجا مختلفا، في تلميح محتمل لاستقالته. وقال الحريري إن لبنان «يمر بظرف عصيب ليس له سابقة في تاريخنا». وأضاف أن أطرافا أخرى بالحكومة، لم يسمها، عرقلت مرارا جهوده للمضي في إصلاحات. ولكن هذا الخطاب يبدو انه لم يشف غليل المتظاهرين الذين طالبوا أبعد من ذلك باستقالة كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري اضافة الى استقالة الحكومة. والمفارقة ان وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، صهر الرئيس ميشال عون، حملّ ايضا الحكومة ( التي هو طرف فيها) مسؤولية ما يحدث داعيا الى عدم فرض أي ضرائب جديدة والعمل على وقف الفساد وتنفيذ إصلاحات طال تأجيلها، محذرا من أن الاحتجاجات الحاشدة قد تؤدي إلى فتنة.
ولئن تشابهت الأسباب التي دفعت اللبنانيين من مختلف الشرائح والطوائف والمناطق للخروج الى الشارع مع الأسباب المجتمعية والاقتصادية نفسها التي دفعت الجزائريين والسودانيين والعديد من الشعوب العربية أيضا الى الانتفاضة والثورة والمطالبة بإسقاط النظام ، الا ان لبنان يمتلك خصوصية في نظامه السياسي الذي يقوم على التوازنات بين الطوائف في ما يسمى بـ «الديمقراطية التوافقية».هذا النظام الذي يقوم على مفهوم التعايش السلمي بين الطوائف أرسى جزءا كبيرا منه اتفاق الطائف بعد سنوات أليمة من الحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت زهاء 16 عاما بين اعوام 1975 و 1990 . فالشباب اليوم يطالبون بتغيير جذري للنظام الطائفي ووضع أسس نظام سياسي جديد يقطع كليا مع نظام المحاصصة الطائفية .
وتحّمل قطاعات واسعة من المتظاهرين هذا النظام مسؤولية الأزمة...فهل ما يحدث اليوم في لبنان أزمة نظام سياسي ام أزمة سياسيين وفساد سياسي تتحمل مسؤوليته النخبة الحاكمة بغض النظر عن طبيعة النظام اللبناني ؟ وهل سيستجيب السياسيون لنبض الشارع اللبناني المنتفض بحثا عن الكرامة والتغيير والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي الذي طال انتظاره؟
ما يحدث اليوم في بلد الارز هو انتفاضة شعبية بمطالب مشروعة ، إلا ان المخاوف اليوم تكمن أساسا في تحويل هذه المظاهرات العارمة عن وجهتها وتحويلها الى فوضى كارثية وذلك في ظل لجوء البعض الى أعمال العنف وقطع الطرقات وتكسير بعض الأملاك الخاصة والعامة . وهذا ما دفع الكثيرين امس الى اطلاق صيحة واحدة وهي « سلمية ...سلمية».
اليوم حذرت عديد الدول رعاياها من السفر الى لبنان الذي يبدو أمام مفترق طرق صعبة، فإما إصلاح سلمي جذري وإنهاء الفساد بمختلف مظاهره وأشكاله ، وإما السقوط في الفوضى العبثية التي لم تجلب إلا الويلات والدمار لشعوب المنطقة .