حصيلة 2018 في القارة الاوروبية: تقلبات المشهد السياسي العالمي بين صعود الحركات القومية والانعزالية وتغيير موازين القوى الدولية

شهدت سنة 2018 أحداثا حافلة بالتقلبات والمتغيرات التي سوف تؤثر على التوازنات العالمية القادمة

في مناطق حساسة منها الشرق الأوسط وأوروبا. والمحرّك الأساسي في هذه التقلبات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أظهر معاداة للحليف التقليدي الأوروبي وأقدم على تغيير فاجأ الملاحظين فيما يتعلق بالعقيدة الديبلوماسية الأمريكية التي سطرتها الدولة العظمى منذ انهيار جدار برلين.
أبرزت القرارات الأمريكية عام 2018 ما كانت تخشاه دول العالم عام 2017 من تغيير في السياسات الأمريكية يمكن أن تهز الاستقرار الدولي الذي تأسس من حوله النظام العالمي بعد سقوط جدار برلين وانحلال الإتحاد السوفييتي. إتخذ دونالد ترامب سياسة انعزالية قومية تمثلت عام 2017 في الخروج من المعاهدات الدولية المبرمة و في طليعتها معاهدة كوب 24 حول المناخ ثم الخروج من معاهدات التبادل الحر مع كندا و المكسيك و الدول الآسيوية ورفض الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني .

و أظهر ترامب في اجتماع الدول السبعة المصنعة في جوان 2018 عداء للنظام التعاقدي الدولي. و فرض على باقي الدول ومن بينها الحليف الأول الأوروبي أجندة واشنطن مع التأكيد على رفضه للاتفاقات السابقة و دخوله فيما فهمه العالم «حربا اقتصادية» ضد باقي الدول المصنعة. وأسست هذه القمة الخلاف الدولي العميق بين الولايات المتحدة الأمريكية المتشبثة بدورها الريادي و باستقلال قرارها وباقي الدول الكبرى التي توافق على اقتسام السلطة في إطار نظام متعدد الأقطاب. ولئن هدد ترامب بالتخلي عن منظمة الحلف الأطلسي بسبب عدم مساهمة الدول الأعضاء في تمويلها كما يرغب فيه البنتاغون ، فإنه غير من موقفه خلال القمة المنعقدة ببروكسل في شهر جويلية بعد أن وقف على صلابة الموقف الأوروبي الموحد بزعامة المستشارة الأمريكية أنجيلا ميركل التي عبرت عن إرادة «التحرر» من الهيمنة الأمريكية كرد أوروبي على الغطرسة الأمريكية التي يمارسها دونالد ترامب على حلفائه على الصعيدين الأمني والاقتصادي.و ترغب أوروبا في الإبقاء على الحلف لمواجهة الدب الروسي باعتبار أن الحلف الأطلسي هو حارس النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة.

لكن ذلك لم يمنع دونالد ترامب من اتخاذ قرار حاسم على المستوى الدولي دون استشارة أي من حلفائه تمثل -بصفة أحادية الجانب- في الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وتحويل مقر السفارة الأمريكية إليها ضاربا عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن الدولي وبمواقف جل دول العالم التي وافقت على حل الدولتين. و تبعا للموقف الأمريكي قررت استراليا الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل.

لكن نجم دونالد ترامب اهتز داخليا بخسارته للأغلبية بمجلس النواب في الإنتخابات النصفية في نوفمبر و دخوله في مأزق أدى إلى رفض ميزانية البيت الأبيض و دخول الإدارة الأمريكية في أزمة. من ناحية أخرى، أمام صلابة الموقف الصيني و عزم بيونغ يانغ على فرض رسوم على المنتوجات الأمريكية مماثلة لتلك التي فرضها ترامب على الإقتصاد الصيني، غير الرئيس الأمريكي من موقفه خلال قمة العشرين في بيونس أيرس ودخل في مفاوضات جدية مع الصين من أجل التوصل إلى حل. وهو ما يبين أن تغيير السياسة الانعزالية الأمريكية هو نتاج لمقاومة الدول الأوروبية وكذلك الطرف الصيني والذين يلعبون دورا فعالا في إرساء نظام عالمي جديد.

تحالفات جديدة شرق أوروبا
الجديد الآخر على المستوى الدولي هذا العام هو، مرافقة لإعادة انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين على رأس الفيدرالية الروسية، تركيز النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط وفرض توازنات جديدة شرق أوروبا. من ذلك أن تمكن بوتين من توقيع -في منتصف شهر أوت مع زعماء أذربيجان وتركمانستان وكازاخستان وإيران ، في ميناء أكتاو بكازاخستان- اتفاقا حول بحر قزوين اعتبره الرئيس نور سلطان نازارباياف «تاريخيا» في حين اكد فلاديمير بوتين أن «معناه سوف يشكل محطة « في العلاقات الدولية. و كانت دول الجوار حول بحر قزوين تتفاوض منذ انهيار الإتحاد السوفييتي حول وضعية أكبر بحر مغلق في العالم و علاقات الدول المشاركة فيه. و تمكنت روسيا من تحييد منطقتها الحيوية لدعم نفوذها في منطقة الشرق الأوسط.

و حصل بوتين خلال قمة أستنا في 17 سبتمبر على تثمين المحور الثلاثي الروسي التركي الإيراني و تمرير اتفاق مع الجانب التركي لإدارة المرحلة الأخيرة في الصراع السوري بتحرير مدينة إدلب مع تمكين تركيا من «احتلال» شريط حدودي مع سوريا يسهل لها مقاومة الجماعات الكردية المقاتلة. وتلت ذلك قمة اسطنبول في 27 أكتوبر التي شارك فيها فلاديمير بوتين و رجب طيب أردوغان وإيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل والتي كرست الإتفاق الروسي التركي مع حصول الجانب الأوروبي على تنازلات تخص المرحلة الانتقالية السياسية و إعادة إعمار سوريا.

أمام الخارطة الإقليمية الجديدة وجدت الولايات المتحدة الأمريكية -التي دخلت في أزمة مع تركيا- نفسها في طريق استراتيجية باراك أوباما التي قضت بسحب القوات الأمريكية من المنطقة. وذلك ما فعله دونالد ترامب في سوريا و تخلى بذلك عن الدور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط تاركا ذلك لحليفيه الأولين في المنطقة، الكيان الصهيوني و المملكة العربية السعودية وترك لهما دور مقاومة النفوذ الإيراني المتزايد مع إمكانية تدخل عسكري غير بشري عند الحاجة باستخدام الأسطول السادس الأمريكي المرابط في البحر الأبيض المتوسط.

انقسام أوروبي
شهدت سنة 2018 توصل دول الإتحاد الأوروبي إلى اتفاق نهائي مع بريطانيا بقيادة تريزا ماي حول ملف «بريكسيت» الذي ينظم طلاق بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. لكن تريزا ماي تشكو من ضعف المساندة داخليا، خاصة أن البرلمان أصبح يهدد بافشال الإتفاق بسبب الإبقاء على أيرلندا الشمالية داخل الفضاء الأوروبي. وهو ما اعتبره النواب في مجلس العموم مسا من سيادة بريطانيا على أراضيها. و لا يعرف هل تنجح تريزا ماي في تمرير الاتفاق أمام البرلمان في الشهر القادم ؟.

الضربة الثانية في النعش الأوروبي أتت من كتالونيا الاسبانية التي، بعد أن نظمت في ديسمبر 2017 استفتاء اعتبرته مدريد غير قانوني، دخلت في أزمة حادة أظهرت أن ملايين المواطنين الذين خرجوا للشوارع أصبحوا لاعبا سياسيا أساسيا في أوروبا.من ذلك أن أكدت الجماهير التي تنادي باستقلال الإقليم في الانتخابات السابقة ثقتها في زعمائها و الحصول مجددا على الأغلبية في البرلمان الإقليمي مما أجبر الوزير الأول الإسباني ماريانو راخوي على الإستقالة. وهو تحول سياسي كبير أظهر أن للشارع الأوروبي دور يلعبه في تقرير مصيره.

وهو نفس السيناريو الذي واجهه في ما بعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع انتفاضة «السترات الصفراء» - على اختلاف تكوينها ومطالبها - التي هزت على امتداد ستة أسابيع، ولا تزال، التوازنات القومية وأجبرت الحكومة على التخلي عن جل القرارات المرفوضة من قبل الشارع والدخول في «مفاوضات»،أو بالأحرى في «نقاشات» مع مختلف مكونات الشعب الفرنسي لإعادة النظر في «الأنموذج الفرنسي» والتوصل إلى حلول ترضي الجميع و تحافظ على النظام الديمقراطي الذي أصبح مهددا ، في عديد البلدان الأوروبية، من قبل الشارع غير المنظم سياسيا.

هذا البركان الذي احتل شاشات التلفزيونات العالمية هو نتاج لصعود الحركات القومية والتنظيمات المتطرفة التي بدأت تهدد النظام الليبرالي القائم ،بعد أن فشلت الحكومات الأوروبية في تلبية رغبات الناخبين و سنت قوانين لا تخدم مصلحتها بل مصلحة فئات مالية متغولة على المستوى الدولي و الأوروبي. و شهدت أوروبا من جراء ذلك صعود سياسات متطرفة ضد المهاجرين وضدّ النفوذ الأوروبي تدعمها رابطة الشمال في إيطاليا، و الحكومة اليمينية في النمسا و حكومات المجر و بولندا. وهو ما أدخل انشقاقا حقيقيا داخل الإتحاد الأوروبي في حين شرعت فرنسا و ألمانيا في النظر في إعادة نسيج أسس الإتحاد داخليا من أجل دعم المصالح الأوروبية المشتركة. و أعلنت في هذا الصدد فرنسا و ألمانيا على البدء في إنشاء جيش أوروبي موحد ينطلق بإرساء صناعة حربية تشارك فيها الدول التي تقبل المشروع قبل الدخول في تشكيل جيش أوروبي. ولئن لاقى هذا المشروع معاداة البيت البيض فهو مؤشر واضح على تشعب العلاقات الدولية في ظل الإنقسام الأوروبي وعدم تماسك الموقف الأمريكي.

دول الجنوب في مهب الريح
في مقابل هذا النظام المتشعب، تبقى دول الجنوب مهددة بنفس العاهات التي تخبطت فيها منذ عقود.فلم تفلح خلال عام 2018 في دعم استقلالية قرارها و لا في تنمية اقتصاداتها. بل هي مرتع للتنافس بين الدول العظمى. و شهد العام تعاظم الدور الصيني في إفريقيا بعد الجولة المكوكية التي قام بها الرئيس الصيني شي جي بينغ في عدد من العواصم الإفريقية و التي أكدت على تركيز «طريق الحرير الجديدة» في مواجهة القوى العظمى الأخرى. من ناحية أخرى تسهر فرنسا على دعم وجودها في «محميتها التاريخية» ، أي جل الدول الفرنكوفونية أين ترابط جيوش برنامج «برخان» الرامي إلى مقاومة الحركات الجهادية والضامن لاستقرار الأنظمة المدعومة من قبل باريس. ويبقى الدور الفرنسي في الساحل الإفريقي هاما بعد بلورة عقيدة دبلوماسية و عسكرية جديدة من قبل قصر الإيليزي ترمي إلى حماية الدور الفرنسي في إفريقيا.

الدور الفرنسي امتد كذلك عم 2018 إلى بلدان الربيع العربي حيث بادرت باريس بإعانة الفرقاء الليبيين على توحيد صفوفهم و مصافحة المشير خليفة حفتر ورئيس الحكومة فائز السراج في قمة باريس خلال شهر ماي. و شاركت باريس في قمة بالرمو حول ليبيا من أجل الحفاظ على مبادرتها والتمتع بدور في اقرار السلم في ليبيا من أجل فتح باب الإعمار و ضمان تدفق النفط نحو أوروبا.

وتبقى المنطقة الإفريقية محل تجاذب وتدخل من قبل الدول الأوروبية بسبب تدفق المهاجرين غير النظاميين نحو الضفاف الأوروبية عبر المتوسط. و شهد المشهد السياسي الأوروبي تحولا خلال العام مع تعاظم الدور الإيطالي الرافض للبواخر القادمة من البحر والمحملة بطالبي اللجوء. وشكل الموقف الإيطالي الحازم قاطرة لباقي الدول الأوروبية التي سنت قوانين جديدة للهجرة ، مثل النمسا و فرنسا و المجر، التي تصد الباب أمام المهاجرين و تضيق أمامهم إمكانية التواجد على التراب الأوروبي. ودخلت الحكومة النمساوية في حملة منظمة ضد حركات الإسلام السياسي. وشرعت فرنسا في دراسة إعادة هيكلة تمثيلية الجالية الإسلامية الفرنسية لضمان ممارسة إسلام معتدل بعيد عن السلفية الجهادية خاصة أن فرنسا كانت هذه السنة عرضة لهجمات ارهابية متعددة في مدن كركاسون و تراب، ثم في باريس و سترازبورغ خلفت عديد القتلى و الجرحى.

وسوف تبلور السنة الجديدة معالم السياسات الأوروبية و الدولية ضد الإرهاب والهجرة غير النظامية. وسوف يحتل ملف الشرق الأوسط مجددا مكانا بارزا في أجندات الدبلوماسيات الدولية في إطار إعادة هيكلة التوازنات في الشرق الأوسط بعد أن جف الحبر من كتابة المقالات حول الإغتيال البشع للصحفي جمال خاشقجي من قبل كومندوس سعودي و الذي سوف يحدد الموقف من الملك القادم على عرش الرياض بعد القرار الخطير للكونغرس الأمريكي بتحميل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مسؤولية تدبير الاغتيال.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115