فإن القوى الدولية المؤثرة مازالت تخوض فيما بينها منافسة على إستقطاب شخصيات سياسية ليبية من خلال لقاءات وزيارات لعواصم تلك القوى الدولية ( روما – واشنطن – موسكو – لندن – باريس) بالتوازي مع إستضافة إجتماعات دولية ( باريس، باليرمو) وإقليمية ( الإجتماع الأخير لآلية دول الجوار بالخرطوم) لبحث مستجدات الملف الليبي ومستقبله، مع استمرار أنقرة في استقطابها لشخصيات سياسية ووزراء ليبيين للقيام بزيارات عمل / شخصية ومنهم ( وزير داخلية ووزير صحة حكومة الوفاق) وكذلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي إلى طرابلس وما تضمنته من مباحثات حول موضوع الأموال الليبية المُجمدة لدى الجانب التركي منذ عهد القذافي والتي تقدر بمليارات الدولارات، بالإضافة إلى الضجة الإعلامية التي أثارتها شحنة الأسلحة التركية التي تم التحفظ عليها مؤخراً في ميناء « الخُمس».
وشهد عام 2018 تفاعلات عديدة فيما يخص المسارات الرامية لتقريب وجهات النظر / المصالح بين الفرقاء الليبيين ، مسار الترتيبات الجارية بين مجلس النواب ومجلس الدولة، ومسار التقارب المنشود بين المشير حفتر وفايز السراج، ومسار المبعوث الأممي ومقترحاته ( عقد الانتخابات، الاستفتاء على مشروع الدستور، المؤتمر الوطني الجامع).
وفي الوقت الذي دخل إتفاق الصخيرات عامه الثالث ، دعا غسان سلامه مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا المجتمع الدولي لدعم مقترحه بعقد مؤتمر وطني جامع يناقش في الأساس خطة عمل المبعوث الأممي لعام 2019 ورؤيته تجاه الخطوات المنتظرة لتحقيق تسوية سياسية بين الفرقاء الليبيين ، علماً بأن «سلامه» يلاقي إنتقادات يستند أغلبها إلى أن عقد المؤتمر بمثابة الرجوع عدة خطوات إلى الخلف في مسار العملية السياسية وأن الواقع الحالي للمشهد الليبي في غنى عن خارطة طريق / مبادرات فرعية جديدة تزيد من مظاهر الإرباك السائد بالفعل في جميع مسارات الملف الليبي ( أمني /عسكري / سياسي / إقتصادي ).
ضمن هذا الإطار ، وفي أعقاب إعلان باريس قامت إيطاليا باستضافة إجتماع باليرمو، على إعتبار أن الملف الليبي يمثل حالة خاصة ومهمة لإيطاليا – تاريخياً وجغرافياً، أخذاً في الإعتبار التنافس الجاري بين روما وباريس على توجيه دفة المشهد الليبي وفقاً للمصالح السياسية والإقتصادية لكل منهما . كما جسد اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإيطالي « كونتي» وكل
من السراج وحفتر في روما خلال ديسمبر الحالي الاهتمام الايطالي بتعظيم قنوات تواصلها مع كافة الاطياف السياسية في ليبيا سواء في الشرق أو الغرب الليبي، ويتجسد ذلك أيضاً في زيارة رئيس الوزراء الإيطالي إلى بنغازي لدعوة حفتر على المشاركة في اجتماع باليرمو وإعلان الحكومة الإيطالية نيتها إعادة فتح قنصليتها في بنغازي.
من جهة أخرى، لم يحتل الملف الليبي في 2018 نفس الأولوية لدى المعسكر الانجلوسكسوني ( الولايات المتحدة، بريطانيا) مقارنة بملفات دولية أخرى ( سوريا، واليمن)، ويظهر ذلك في الوتيرة البطيئة التي إتسم بها تفاعل إدارة ترامب مع مستجدات الملف الليبي.
ومع ذلك فإنّ الولايات المتحدة تنوي عقد مجموعة إجتماعات تتناول الوضع الإقتصادي في ليبيا بهدف تعزيز الشفافية المالية ومكافحة الفساد من خلال مناقشة مسائل لها علاقة بميزانية الدولة لعام 2018 والإعداد لميزانية عام 2019. وتظل تساءلات عديدة حول مدى إيلاء واشنطن إهتمام حقيقي بمستقبل العملية السياسية في الاراضي الليبية في ظل انتقادها للتنافس الجاري بين القوى الأوروبية على استضافة مؤتمرات، وتفضل أن ينصب تركيزها في المرحلة الحالية على دعم المسار الاقتصادي ( يولي ترامب أهمية قصوى لمواصلة انتاج النفط وتصديره من ليبيا وتنويع المصادر العالمية للنفط) وترددها في الإنخراط بقوة لتوجيه المسارات الاخرى ( السياسية والأمنية والعسكرية ). ويلاحظ في هذا الإطار تركيز لندن خلال عام 2018 على تقديم دعم فني وتدريبي لعناصر من وزارة الداخلية الليبية ( حكومة الوفاق الوطني وموضوعات الهجرة غير الشرعية ومكافحة الجريمة المنظمة وربما تشهد بدايات العام الجديد عودة لندن وواشنطن ( من خلال تنظيم اجتماع اقتصادي عن ليبيا في النصف الاول من جانفي 2019 في العاصمة التونسية) إلى الاهتمام بالملف الليبي وعدم ترك الساحة تماماً لممارسات الاستقطاب الجاري بين باريس وروما.
ومع اتساع دائرة التنافس والاستقطاب بين القوى الدولية المؤثرة، يظل القلق الأوروبي من تنامي الاهتمام الروسي بالملف الليبي والذي بات يحتل أولوية متقدمة في اهتمامات الرئيس بوتين بعد الملف السوري مباشرةً حيث تستقبل الدوائر والاجهزة الروسية تعليمات مباشرة من بوتين بشأن الانفتاح على كل الفاعلين السياسيين في ليبيا ( الغرب، والشرق، والجنوب الليبي) سواء من برز عقب 2011 وفي مقدمتهم المشير حفتر، أو أقطاب مرحلة ما قبل 2011 وعلى رأسهم سيف الإسلام القذافي الذي يحتفظ بعلاقات طيبة مع موسكو وفاتح مسؤوليها في مسألة ترشحه للانتخابات الرئاسية المحتملة في ليبيا.
وما بين الحضور الروسي المتزايد والإنزواء الأمريكي النسبي في 2018 شهد الاسبوع الأخير من العام الحالي تصريحات لنائب وزير الخارجية الروسي صرح مبعوث الرئيس الروسي للشرق الاوسط في 24 ديمسبر الجاري أنّ سيف الإسلام القذافي من حقه أن يكون جزءاً من العملية السياسية في ليبيا.
فمن الأرجح أن يستمر التنافس الجاري بين القوى الدولية خلال العام الجديد، والكل يعيد التأكيد -خلال اللقاءات العلنية وداخل أروقة الاجتماعات المغلقة- على أهمية تحقيق استقرار ليبيا، إلا أنّ العمل الدولي المشترك يبقى دون جدوى حقيقية وبات واضحاً أن القوى الدولية لا تقف صفاً واحداً، وأن الفعاليات الدولية أظهرت أن استمرار تعقيدات المشهد الليبي يصب في صالح أطراف دولية لها مصالحها الاقتصادية بالأساس والتي لا تخدم صالح المواطن الليبي.