من الحرب الكونية عليه، رغم ما يحاك في السر أمريكياً وصهيونياً للمستقبل القريب، حتى بدأت تظهر جليّاً خطوات الإعداد لمرحلة إعمار سورية وبدأت عجلة المؤتمرات الاقتصادية والمعارض الدوليّة وحتى البيئة التشريعية اللازمة للبدء بهذه المرحلة، ومعها بدأ السّوريون ينفضون عن حياتهم غبار وركام ودماء الحرب التي انتصروا بها بدمائهم وأشلاء أجسادهم وتمسكهم بالجيش السوّري الذي صنع النصر، وبدأت بوارق الأمل تسطع مجدداً رغم ظهور بعض التصريحات المستفزّة من هنا والقرارات غير المدروسة من جهةٍ ثانية، ومعها بدأ الخوف يتسلل إلى النفوس هل انتصرنا فعلاً، ألا يجب أن ينعكس هذا النصر انتعاشاً اقتصادياً ومعنوياً..
يقول آخرون أنه في القريب العاجل سنلحظ الفرق ويجيب البعض الآخر عليهم من انتظر 8 سنوات لن يغص ببضعة أشهر حتى تتمكن الحكومة من تجهيز استراتيجيات ما بعد الأزمة، ومع هذه التساؤلات المشروعة والقلق على مستقبل البلد لابد من طرح بعض التساؤلات حول طبيعة ما بعد الأزمة أو الحرب على سورية، لأنّ أيّ استراتيجيةٍ لا تكون في هدفها النهائيّ تضمن منع تكرار السيناريو ذاته فهذا يعني أننا ذاهبون إلى مجهولٍ لا يعلمه إلا صانع الأقدار، وهذا يعني أنّ مرحلة إعادة الإعمار بالمعنى الاقتصادي يفترض أن ترافقها وربما تسبقها عملية تهيئة البيئة الثقافية للإعمار الجديد، وهنا يجب أن نطرح الأسئلة التالية؟ لأنّ إجاباتها هي من تحدد بيئة الإعمار الاقتصاديّ فالقضية ليست بناءً مهدماً ويُبنى بل إعادة إعماٍر وتأسيسٍ لبنىً جديدةً اقتصاديةً وعمرانيًة ستفرز قطعاً قيّماً اجتماعيةً جديدةً ولا نعتقد أننا بحاجةٍ إلى مزيد من الاستقطاب القيميّ تفرزه طبيعة البنى القديمة والجديدة:
السؤال الأول: كان التطرف ولايزال بيئة سهّلت الحرب الخارجية على سورية لتدميرها، ومن جهةٍ مقابلةٍ توسع التطرف بتوسع أماكن سيطرة المجموعات القاعدية الداعشية، فهل حددنا السبب الرئيس للتطرف؟ أم اكتفينا بأنّ التطرف مردّه إلى الفهم الخاطئ لبعض النصوص التراثية الثانوية للدين غذاها الإعلام والمال الوافد إلى بيئة الحرب، يمكن تصحيح الفهم حول تلك النصوص! فإن فعلنا نكون قد وقعنا في الكارثة.. فالتطرف الدينيّ ليس سبباً بحدّ ذاته بل نتيجةٌ لأسبابٍ أخرى عدم معالجتها تعني استمرار نشوء التطرف، نطرح جزءاً منها على شكل أسئلةٍ: ما علاقة المعمار بالتطرف، وما علاقة الإحباط بالتطرف؟ ما علاقة الحرمان الجنسيّ بالتطرف؟
السؤال الثاني: هل منظومتنا الأخلاقية والقيمية التي تضبط سلوك المجتمع بخيرٍ، وهل هنالك اتفاقٌ مجتمعيٌّ على مرجعية هذا المنظومة الأخلاقية؟، بمعنى هل مرجعية أخلاقنا من العقل أم من الأديان؟ فلا يعقل أن نخوض في إعادة الإعمار (الاقتصاديّ والعقليّ) قبل أن نثبّت منظومة القيم الاجتماعية لأنهّا رافعة إعادة الإعمار ثقافياً وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية أو إصلاحها، يحتاج إلى تحرير العقل من السّلفية والماضوية، أيّ إعادة تشكيّل الوعيّ، وهذا يتطلب تحريره من الفقر والجهل والخوف، فهل نملك الإرادة والأدوات؟
السؤال الثالث: أيّ علاقةٍ تربطنا بالتراث، هل نحن كائناتٌ تراثيةٌ أم كائناتٌ لها تراث؟، هل تراثنا مقدّس، هل مارسنا النقد العقليّ لهذا التراث، ألم ينتقل الغرب إلى المستقبل بعملية قطعٍ معرفيّ مع التراث، ألّا يجب أن يخضع التراث إلى سؤال العقل والنقد، لا نريد قطعاً معرفياً ولكن نريد وصلاً أبستمولوجيا اركيولوجيا مع هذا التراث ليصبح أساساً نحو المستقبل لا أن نخضع مستقبلنا لدائرة الإكراهات التراثية.
السؤال الرابع: جددنا في خطابنا الديني وقامت وزارة الأوقاف مشكورةً بهذا المسعى، مع التمني باستمرار هذه الخطوة في العمق، ولكن هل جددنا في خطابنا العلمانيّ؟، فالتجديد عمليةٌ متكاملةٌ، وتصلب الخطاب العلمانيّ لا يقلّ خطورةً عن دوجمائية الخطاب الدينيّ، ومن لا يرى الاستقطاب الناشئ بين التيارين فإمّا أنّه مكابرٌ أو متكبّر عن العرَض الاجتماعي، فإعادة العلمانية إلى دلالتها الحداثوية ومضامينها العقلانية، تستلزم بالضرورة إزالة شبهتها بالإلحاد في العقل المجتمعي، وحلّ إشكالية المقدّس وإشكالية الأخلاق في المرجعية الثقافية العربية، هيّ المقدمة الضرورية لفكّ الاشتباك بين التيارين العلمانيّ والدينيّ.
السؤال الخامس: دخل العالم مرحلة ما بعد الحداثة بثقافتها وأدواتها الفكرية والسّياسية، ونحن مازلنا في أفضل تصنيفٍ نقف على أبواب النهضة فلا مشروع النهضة تحقق ولا الغرب توقف عن التطور، فباتت الفجوة المعرفية تزداد وربما دخلنا مرحلة الفجوة الزمنية، فانكمشنا على التراث ليحفظ وجودنا، أمّا آن لنا أن نعلن الحداثة مشروعاً سياسياً وفكرياً يضعنا على سكة المستقبل ولمن يحب النقد ويصف هذه الأفكار بدعاة التغريب فالحداثة مرجعية ذاتها لمن يجهل ذلك، كما العلمانية نظرية في المعرفة وليست في السياسة.
السؤال السادس: من نحن؟ وهذا السؤال -بطبيعته متجددٌ- هو الأهم ليس لارتباطه بسؤال الهوية بل لارتباطه الوثيق بمفهوم الدازين والكينونة، لأنّه مرتبطٌ بما يجب أن نكون عليه مستقبلاً لا بما نحن على راهنيته، فهل وضعنا أسس الدازين السوري، فوعي السوريّ يجب أن تستمد من سوريته لأنّها أساس الانتماء المشترك ولا خلاف بعدها بين النظريات القومية.
السؤال السابع: كيف نوائم بين هويتنا الثقافية (العربية / الإسلامية) وتحالفاتنا السياسية، فنحن جزءٌ من محور المقاومة وأقرب إلى اوراسيا سياسياً، والإجابة عن هذا التساؤل ليست ترفاً فكريّاً بقدر ما هو إدماج المجتمع مع خيار السياسة، فوقوع التعارض في الوعيّ ينتج عنه ارتباكٌ في السلوك، فلذلك يجب أن يكون الوعي السياسّي موحداً بين النخبة والمجتمع لا أن تتعالى النخبة فتضع نفسها في مكان الوصيّ على المجتمع، لأن الخيار السياسي عندما يكون خيار المجتمع تكون احتمالات خرقه فردية.
السؤال الثامن: العلم أساس النهضة فهل منظومتنا التعلمية والدراسات العليا بخير، هل واقع البحث العلميّ بخير، أين مراكز البحث وخبراء علم النفس والاجتماع والسياسة، وهل يعقل أن ينشر الباحث نتاجه العلميّ بأجرٍ رمزيّ (خصوصاً في العلوم الاجتماعية والسّياسية)، فالثورة العلميّة أساس الحداثة.
السؤال التاسع: مستويات الإحباط العام التي تزداد بلا وجود دراساتٍ نفسيةٍ اجتماعيةٍ نتيجة عدم حلّ مشاكل البطالة والسّكن والزواج من جهة، والتعميميات الإشكاليّة والتصريحات المستفّزة وأحياناً القرارات الغير مدروسةٍ من جهةٍ أخرى، من المسؤول عنها، ومتى سنتجاوز عقدة الرجل الغير مناسب في التعيينات، لأنّ التراجع عن القرارات لا يحلّ المشكلة كاملةً بسبب إحداثها خللاً في الثقة وتبعاتٍ على المشاركة السياسيّة.
السؤال العاشر: ألّا تحتاج الإجابات عن هذه التساؤلات عقداً اجتماعياً جديداً مكرّساً بعقدٍ سياسيٍّ متفقٍ عليه، ألّا تحتاج الإجابات على هذه التساؤلات عقد مؤتمراتٍ وجلساتٍ نقاشيةٍ متخصصةٍ وغير متخصصة لبلوغ تفاهماتٍ مؤسِسةٍ لمرحلة ما بعد الأزمة؟ هل أسلوب التعيين الهرميّ يساعد في ذلك؟ من ينتج الوعيّ في سوريا يا سادةّ؟ من يملك الإجابة فليجبني بجرأةٍ!
التأسيس على الكارثة هو الكارثة القادمة، فالانطلاق من جديدٍ دون الإجابة على جملة التساؤلات السّابقة يعني انطلاقنا من ذات الأرضية التي شكّلت مناخات الأزمة، والتي كانت بوابةً للحرب الدوليّة على سوريا وشعبها، ونحن في سوريا على مفترق طرقٍ، حجم الدمار كبيرٌ ولكن حجم الانتصار أكبر، ولعلّها فرصةٌ تاريخيةٌ لمعالجة تراكمات الماضيّ والبدء من جديد، والمستقبل أمامنا وجسور العبور واضحةٌ فإما أن نسلكها أم نبقى كما نحن فالمستقبل لا ينتظر أحداً، فالترميم لا يفيد وأن نضع هدفنا بالعودة أفضل من العام 2011 لا يفيد أيضاً، يجب التأسيس للمستقبل بإطلاق حداثةٍ سوريةٍ في الفكر والاقتصاد والاجتماع، مرجعيتها سوريةٌ بأدواتٍ سورية، وإلّا سنبقى أسرى الإكراهات الأيديولوجية والتاريخية التراثية...فالشرق الأوسط قادمٌ على أزمةٍ أكبر وأعقد من الأزمة السورية فلا يعقل أن نستمر بعقليّة الماضيّ.