الجيوبوليتيك ورسم شبكة التحالفات الدولية

سومر صالح
كاتب ومحلل سياسي سوري
لسنا في لحظاتٍ تاريخيةٍ عاديةٍ، ولسنا أمام نمطٍ من الصراعات التقليدية، نحن في لحظة تشكّلٍ جديدٍ في النظام الدوليّ،

وخطر الصدام بين القوى الراغبة بالتغيير وبين الطرف المسيطر بات وشيكاً، ولكن شكل الصدام مازال غير واضح، وعليه لا يمكن قراءة أيّ نزاعٍ متعدد الأطراف إلّا بمنظورٍ جيوبولتيكيّ، بما فيها الأزمة السورية. البعض قد يعترض على توصيفها بصراعٍ جيوبولتيكيّ، والبعض الآخر قد يعترض على الجيوبولتيك نفسه باعتباره علماً قد ضُعف منذ نشوء التكتلات العابرة للقومية وللجغرافيا المركزية، ولكن، هل اندثر الجيوبولتيك حقاً؟ وهل فقدت الجغرافيا أهميتها في رسم شبكة التحالفات الدولية؟

لندقق: في صيف 1989، نَشَرت مجلة ناشيونال إنترست مقالاً بعنوان نهاية التاريخ؟ للكاتب السياسيّ فرانسيس فوكوياما، وكانت أُطْروحَتهُ الأساسيَّة أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة ومبادئ الليبرالّة الاقتصادية، تُشَكِّلُ نهاية الأيديولوجيات وستكون النمط الغالب للأنظمة حول العالم، وفي عام 1993 ردّ صموئيل هنتغتون على تلميذه فوكوياما بكتابته مقالة بعنوان صدام الحضارات، وجادل بأنّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرك الرئيسيّ للنزاعات، وفي الحالتين شكّلت مدرسة هنتغتون وتلميذه فوكوياما انعكاساً لروح الانتصار في المواجهة السوفييتية الأميركية، وانتهاء الصراع الجيبولتيكي التقليدي، لصالح استمرار المفهوم الأميركيّ عن الجيوبولتيك والذي سمُيّ بجيوبولتيك البترول، وتعززت اتجاهات انتهاء الجيوبولتيك التقليدي بظهور التفكير المعولم الملغي للحدود. فالدول الصناعية لم تركّز على مسألة التوسّع الإقليميّ ولكن ركزّت على تحقيق المكانة الاقتصادية والتطور التكنولوجيّ، وهذا ما نجحت الدول الأوروبية في تحقيقه من خلال تأسيسها للاتحاد الأوروبيّ ذي المضامين الاقتصادية.

روسيّاً، شكّلت حالة انهيار الاتحاد السوفيتي صدمةً لدى الجيبولتيكيين الروس، وتعددت اتجاهاتهم لاحتوائها وإعادة إنتاج نظرتهم لروسيا الجديدة ومكانتها الدولية بين المدرسة الوطنية- الليبرالية التي تدعو إلى التكيّف مع الليبرالية الغربية، وهي تعكس واقع الانهزام، والاتجاه الثانيّ وهو المدرسة الجيو -اقتصادية التي تتبنى العقلانية الاقتصادية والتكامل مع الغرب والتشبيك مع القوى الأساسية في أسيا والذي تبناها بوتين في فترة انتخاباته الأولى، وهي تعكس إرادة التكيّف، وبين الاتجاه الثالث وهو مدرسة حفظ التوازن الأوراسيّ بمعنى أن تقوم بدور الموازن الإقليميّ عسكرياً، وهي تعكس إرادة النهوض. وبقيّ الاتجاه الجيو اقتصاديّ هو الغالب في النظرة الروسية لمكانتها الدولية إلّى أنّ ظهرت أفكار السيد الكسندر دوغين ونشوء المدرسة الأوراسية الجديدة، التي تجاوزت في كثيرٍ من حيثياتها نقاط الضعف والرؤية الجزئية للاتجاهات الجيوبولتكية الروسية، وتجاوزت فكرة الدولة الإمبراطورية الروسية لصالح التكتل الأوراسيّ الممتد، محدداً الهدف الأسمى للأوراسيانية بمواجهة الهيمنة الأمريكية والوصول إلى المياه الدافئة لتصبح الإمبراطورية الجيوبوليتيكية مكتفيةً ذاتياً، فطرح ما سماه «النظرية الرابعة» معلناً سقوط الليبرالية الغربية وكأنّ السيد دوغين يردّ الدّين إلى فوكوياما الذي أنهى التاريخ بسقوط الشيوعية، فتكون النظرية الرابعة بداية التاريخ الجديد، تاريخ التعددية القطبية التي تؤمن بعالمٍ تعدديّ وأخلاقيّ، عالم ممكن، إذ استطاعت روسيا إنتاج أيديولوجيةٍ خاصة بها، وتجسدت السيادة الجيوسياسية لقوى القارة الأوراسية (قوى البر) التي تشكّلها كلٌّ من روسيا، الصين، إيران، الهند، ضدّ قوى الأطلسية، مشيراً إلى أهمية محور برلين –موسكو لتقويض القوى البحرية واشنطن-لندن.

أفكار دوغين تلك سرعان ما وجدت آذاناً صاغيةً لدى الرئيس بوتين، وهي التي أتت في لحظةٍ استطاعت الجيبولتيكيا الاقتصادية (البوتينية) أن تنهض بروسيا من صدمة الكارثة بانهيار الاتحاد السوفييتي وبدأت تستعيد توازنها الدوليّ، وأتت في لحظةٍ بدأت الدول الصاعدة كالصين والهند والبرازيل تهدد الأحادية القطبية. فتشابكت الرؤية الجيو اقتصادية البوتينية مع الرؤية الأوراسية الجديدة الدوغينية لتنتج العقل السياسيّ الروسيّ المعاصر، وذاتها تقريباً الدول القارية في رؤية دوغين هي دولة التعاون الاقتصاديّ(البريكس) في استراتيجية بوتين. ومع هذا التلاقح في الرؤيتين بدء عصر العودة إلى الصراع على الممرات البحرية والكتل القارية، أيّ العودة للتعريف التقليدي للجيوبوليتيك لإعادة إنتاج أوراسيا في مواجه الأطلسيّ الليبرالي.

تركيا الكتلة القارية المهمة
لا يمكن لمشروع أوراسيا الدوغينية الذي بدأ مع استعادة القرم(2014) وضمان الوجود الدائم شرق المتوسط(2015) أن ينجح إلّا بثلاثة عوامل أساسيةٍ: الأول هو تأمين الأحزمة الأوراسية الثلاثة وهيّ أوروبا الشرقية والبلقان والحزام العربّي. والثانيّ هو التشبيك مع نواة القوة الأوراسية والمتمثلة بمنظومة معاهدة الأمن الجماعي. والعامل الثالث ضمان استقرار الفضاءات الاقتصادية الكبرى كشنغهاي والهند. ولتركيا الحصة الكبرى في المشروع الأوراسيّ فلها نفوذ واسع في وسط أسيا وجنوب القوقاز (منظمة الشعوب التركية) ولها حضورٌ بارز في البلقان، إضافةٌ لكونها رأس حربة الناتو في مواجهة روسيا. لذلك نجاح أوراسيا الجديدة يتطلب إمّا احتواء تركيا أو تحييدها، وهو ما عمل عليه الرئيس بوتين من خلال الاعتمادية الاقتصادية أيّ تشبيك الاقتصاد التركيّ مع الاقتصاد الروسيّ بما يمنع تركيا من مواجهة الأورسة، مستغلاً عاملين أساسيين.

الأول هو فشل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وعليه يجد النظام التركي نفسه في مواجهة روسيا شريكه الاقتصادي في منظمةٍ تعتبر من مخلفات الحرب الباردة، والعامل الثانيّ هو بزوغ العثمانية الجديدة كمشروعٍ بديلٍ للانضمام إلى الاتحاد الأوربي ويمتد من أسيا الوسطى إلى البلقان. هذا المشروع العثماني بالمفهوم الروسيّ لا يتعارض مع الفكرة الأوراسية القائمة على فرضية الشراكة والتكامل مع فضاءاتٍ قاريةٍ كبرى في المنطقة الأوراسية، ولكن شرط أن تكون قائمةً على مبدإ رفض الأمركة كنظامٍ سياسيّ واقتصاديّ للعولمة.

حصان طروادة تركيّ.. في الأحضان الأوراسية
المشروع النيو/عثماني قائمٌ لا جدال في ذلك، ولكن من الصعب ترجيح حاضنه الحيويّ الأكبر، الأوراسية الجديدة أم الليبرالية الأطلسية القائمة، فروسيا التي تحتاج تركيا لضمان وجودٍ مستقرٍ في المياه الدافئة أبدت تفهماً مبالغاً فيه لمصالح تركيا في سورية، لم تستطع التثبت من التوجه التركي الاستراتيجي. فتركيا لم تحسم خيارها بعد، فمواجهتها مع مشروع كرد عفرين دون مواجهة ذات المشروع شرق الفرات يعني أنّها لم تختر المواجهة مع الأطلسية الأمريكية بانتظار حسم نتيجة المواجهة الاستراتيجية بين روسيا والأطلسيّ والتي بدأت بقصف حميميم وإقرار قانون ضم الدونباس بأوكرانيا، والمستمرة في تفكيك البريكس وسحب الهند والبرازيل منه، وصولاً للمنازلة في البلطيق بحراً وجواً. بما يضعها أمام سيناريوهين، الانضمام إلى الطرف الأقوى في هذه المواجهة، أو وضع مشروعها النيو/عثماني كمشروعٍ مستقلٍ مستغلاً حاجة الكتلتين الأوراسية والأطلسية له. أمام هذه الرمادية في الموقف التركيّ ينبغي عدم تقديم أيّ أوراقٍ لتركيا بالمجان أو بأثمانٍ منخفضةٍ وتكتيكيةٍ لأنّ المشروع التركيّ ينافس المشروع الأوراسيّ جيبولتيكيا، بما يعني أنّها قد تنقلب على

المشروع الأوراسيّ. وهذا سينعكس ببالغ الضرر على حلفاء روسيا، ومنه الموقف الروسيّ بشأن العدوان التركي على عفرين. فالحاجة الروسية الماسة لتأمين الأحزمة الأوراسية والحزام البحريّ شرق المتوسط، ينبغي أن يكون محسوباً بدقةٍ . فانبعاث الجيوبولتيك من شرق المتوسط سيحول الجرف القاري الأوراسيّ إلى نقطة اصطدامٍ جيبولتكيّ ترسم حدودها بدماء أبناء هذه المنطقة ولعلّها لعنة الجغرافيا، في لحظةٍ تخلى الجيوبولتيك عن سكونه، وعاد الدّم يرسم حدود التكتلات القارية الكبرى، وعادت الجغرافيا محدد السياسات وبوصلتها، والولايات المتحدة قررت المواجهة الاستراتيجية مع النيو/اوراسيا، عبر تفكيك فضاءاتها الاقتصادية أو ضرب استقرار أحزمتها الجيبولتكية...وهنا نحن لا نحمل روسيا المسؤولية فرؤيتها السّامية لعالم متعدد الأقطاب وأخلاقيّ، يتقاطع مع طموحات أغلب الشعوب النامية، ولكن بدأ يصطدم برؤية الدّم وآلة التدمير الأمريكية لتثبيت هيمنتها على العالم، وهو أمرٌ يتطلب حسماً سريعاً للعلاقة الروسية مع تركيا أو إيجاد مقارباتٍ أخرى . فتركيا أذاقت محيطها بكامله مرارة الألم والصراع والإرهاب بدءاً من سوريا والعراق وأرمينيا.. دون أن ننسى أنّ عثمانية اردوغان/ اوغلو كانت رأس الحربة الأطلسية لضرب الأوراسية التقليدية، فعلى ماذا تراهن موسكو من جديد؟!

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115