جهود تركيا في منع قيام منطقة للأكراد ذات حكم ذاتي في شمال سوريا أدت إلى التخفيف من حدة مطالبتها برحيل الرئيس الأسد فوراً، بينما تسعى لإصلاح سياستها الخارجية التي زادت من عزلتها في الداخل والخارج، بعد أن أصبحت عبئاً كبيراً على التحالف الأمريكي، حتى أن البرلمان الألماني قد صوت لصالح الاعتراف بالمذبحة التي ارتكبها الأتراك ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، وهي إشارة لمدى اتساع الفجوة بين تركيا وأوروبا، التي أصبحت ترى في أردوغان شخصاً مثيرا للمتاعب، وتحمله وزر إغراق أوروبا بالمهاجرين.
في عهد رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو كانت أنقرة تصر على رحيل الأسد بإعتباره السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار لسورية وهو ما أثار خلافاً بينها وبين روسيا حليفة الرئيس السوري، وقد تحقق أسوأ كوابيس تركيا من خلال الدعم الروسي للرئيس الأسد واستفادة مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية من الدعم الأمريكي وهو ما عزز موقفهم في أراض متاخمة للحدود التركية.
ومن أسباب تحركها بشأن دمشق إدراكها أن رحيل الأسد يمكن أن يفيد وحدات حماية الشعب الكردية من خلال تعزيز سيطرتها على أراض في شمال سوريا، بالإضافة إلى تراجع أمريكا خطوة إلى الوراء بشأن الأزمة السورية بقبولها التباحث مع الأطراف المعنية لا سيما روسيا وإيران حول الأزمة السورية دون طلب تنحي الأسد كشرط مسبق لتسوية هذه الأزمة، وجاء التراجع الأمريكي هذا بعد تعزيز روسيا لقوتها العسكرية في سوريا الكامل مع إيران لحل الأزمة السورية سلمياً وعبر الطرق الدبلوماسية دون الرضوخ لمطالب الغرب، بالإضافة إلى عجزها عن إسقاط نظام الأسد وصمود الجيش السوري وشعبه، علاوة على الدعم الروسي الإيراني غير المحدود، خشيتها من الدخول في نزاع مسلح مع روسيا وإيران وحزب الله.
كذلك لا يترك لتركيا سوى خيارات قليلة هي استئناف محادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني وهو ما تستبعده الحكومة حتى الآن ، وبالتالي فإن تبني موقف أقل حدة مع الأسد يساعد في تحسين العلاقات مع روسيا التي توترت بشدة منذ أن أسقطت تركيا مقاتلة روسية قرب الحدود السورية في نوفمبر الماضي، وكبد النزاع تركيا خسائر بمليارات الدولارات بسبب عوائد السياحة التي فقدتها والعقوبات التجارية.
رغم اتخاذ موسكو لهجة وخطوات تصعيدية تجاه تركيا إلا أنها لا تزال تحمل في جعبتها بعض أوراق الضغط ضد تركيا التي لم تلعب عليها بعد، وهو ما تعلمه أنقرة جيداً وتسعى إلى تجنب الوصول إلى مرحلة اللعب على هذه الأوراق، وأهمها: إيقاف عقود الشركات الروسية بشأن محطات الطاقة النووية المزمع إنشاؤها جنوب غرب تركيا، تخوف تركيا من تكثيف روسيا دعمها لحزب العمال الكردستاني في معركته ضد أنقرة والذي تصنفه تركيا وحلفاؤها الغربيون على أنه منظمة إرهابية، بالإضافة إلى تقديمها أسلحة متطورة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، والذي يهدف إلى تحقيق الحلم الكردي من خلال السيطرة على ممر جرابلس- أعزاز وربط كانتون عفرين بمناطق شمال شرق سوريا، وإنشاء منطقة ذات حكم ذاتي للأكراد، وهو ما ترفضه السلطات التركية تمامًا وتعتبره تهديداً لأمنها القومي.
في هذا السياق بعث الرئيس أردوغان برسالة إلى نظيره الروسي بوتين هنأ فيها الشعب الروسي «بيوم روسيا»، وأعرب الرئيس التركي في الرسالة عن أمله في أن تعود العلاقات بين موسكو وأنقرة إلى طبيعتها وترتقي إلى المستوى اللائق في القريب العاجل بما يلبي المصالح المشتركة للشعبين، كما حاولت تركيا مراراً إعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعي وأعلن الرئيس الروسي أن روسيا تود استئناف العلاقات مع تركيا وتنتظر خطوات محددة من قبل أنقرة في هذا الاتجاه، لكنه أشار إلى أن أنقرة لم تقدم بعد على هكذا خطوات.
هنا يمكننا القول إن الدلالات والتوقعات تشير إلى أن يتوجه الرئيس أردوغان او رئيس وزرائه إلى دمشق، ومن تابع تصريحات وتهديدات الرئيس أردوغان في بداية الأزمة السورية لا يمكن ان يتوقع تراجع نبرته تجاه سوريا في هذه الفترة، لذلك يبدو ان تركيا اقتنعت أخيراً، بقبول الحل السلمي للأزمة السورية بالطرق الدبلوماسية دون التهديد باستخدام القوة.