الذي ترك المجال واسعا لرجوع حركة طالبان إلى كابول وإعلان الإمارة الإسلامية بأفغانستان. وتخفي حضور الرئيس جو بايدن وعائلات الضحايا مراسم الاحتفال التذكاري مرارة «الهزيمة» التي يشعر بها الرأي العام الأمريكي بمشاهدة رجوع نظام طالبان بعد عشرين سنة من «الحرب على الإرهاب».
تنتهي مرحلة تاريخية اليوم بعد أن قررت إدارة الرئيس جورج بوش «معاقبة» طالبان على الهجمات التي قام بها إرهابيون من السعودية ومصر تحت إمرة أسامة بن لادن الذي دعمته الولايات المتحدة عام 1979 في حربه ضد أفغانستان والإتحاد السوفييتي قبل أن ينقلب عليها. وقد خلفت الحرب على أفغانستان من الجانب الأمريكي 2400 قتيلا و20000 جريحا و 38 ألف قتيل بين المدنيين و 70ألف جريح أفغاني. وكانت الولايات المتحدة قد دخلت الى أفغانستان في شهر أكتوبر 2001 في تحالف مع قوات الحلف الأطلسي فيما سمي بعد ذلك «الحرب على الإرهاب» وأطاحت بحكم طالبان وركزت حكومة بديلة وكونت جيشا أفغانيا دعمته بأكثر من 88 مليار دولار منذ 2001. وتذكر إحصائية نشرتها جامعة براون الأمريكية أن مجمل الأموال التي صرفت من قبل الكونغرس الأمريكي، انطلاقا من 40 مليار دولار قررت عام 2001 ،وصلت إلى 6400 مليار دولار في حين أقر البنتاغون مبلغ 2261 مليار فقط.
الانسحاب المبرمج
في عام 2014، بعد أن تركزت حكومة أشرف غاني، قررت منظمة الحلف الأطلسي سحب قواتها العسكرية من أفغانستان في إطار الانسحاب التام المبرمج لعام 2016 قبل أن يؤجله الرئيس باراك أوباما الى موعد لاحق. أما دونالد ترامب فقد قرر وقف الانسحاب وإرسال قوات إضافية إلى كابول لدعم الحكومة القائمة. وقد فاجأ قرار جو بايدن بالتخلي التام، المعلن منذ حملته الانتخابية، حليفه البريطاني الذي خاض معركتين ضد أفغانستان في القرن التاسع عشر عام 1839 وسنة 1878. وكانت بريطانيا قد أرسلت 130 ألف جنديا لمساندة القوات الأمريكية وتكبدت خسائر بشرية قدرت بأكثر من 450 جنديا مقابل دفع 40 مليار جنيه لدعم المجهود الحربي.
تم تنظيم الانسحاب المفاجئ منذ 2018 مع حركة طالبان عندما سمح لها بفتح مكتب في الدوحة – قطر من أجل التفاوض مع الإدارة الأمريكية الممثلة في وكالة المخابرات «سي أي أي». وكان حرص الإدارة الأمريكية متمركزا حوا «إعادة الاتفاق الأولي» مع طالبان الذي تم إرساؤه عام 1979 والذي خرقه زعيمهم الملا عمر عندما حضن أسامة بن لادن على الأراضي الأفغانية وسمح له بتكوين تنظيم القاعدة. قبول واشنطن برجوع طالبان إلى كابول يدخل في إعادة ترتيب التوازنات في المنطقة مع انسحاب الولايات المتحدة المبرمج عسكريا من كل منطقة الشرق الأوسط.
مخلفات «الحرب على الإرهاب»
الحرب على أفغانستان التي تحولت إلى حرب على الإرهاب تركت بصماتها في المنطقة وامتدت إلى الحرب على العراق ( 2003و 2008) ثم مع اندلاع الثورات العربية الهجوم على ليبيا واسقاط نظام العقيد القذافي (2011) وتقسيم السودان إلى دولتين بين الشمال والجنوب (2011) والمشاركة في التحالف الدولي ضد سوريا (2014) ومحاربة تنظيم داعش في العراق ومساندة الحرب على اليمن (2015) من قبل القوات السعودية والإماراتية. هذه السلسلة من الحروب والاعتداءات كان وراءها الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات الأمريكية.
وقد أدت هذه الحروب إلى فشل واشنطن العسكري والمعنوي. وذلك ما يبقي في ذاكرة الشعوب، إضافة إلى القتلى والجرحى عن غير حق وباستعمال أكذوبة «سلاح الدمار الشامل» كذلك السقوط الأخلاقي في سجن أبو غريب وفي سجن غوانتانامو الذي لا زال يحتوي على سجناء دون محاكمة لسنوات طويلة. سقوط أخلاقي كرسه «القانون الوطني» (ذي باتريوت أكت) الذي أجاز التعذيب والمعاملات غير الإنسانية والإيقاف والقتل خارج نطاق القانون والسجن بدون محاكمة وجميع ذلك انتهاك صارخ للقوانين الأمريكية والدولية. وشكلت تلك الإجراءات تراجعا دولة القانون في حين كانت الدعاية الأمريكية تشهر نية واشنطن بـ«تركيز الديمقراطية» في الشرق الأوسط. سيرورة سياسية أدخل الولايات المتحدة في الفكر الشعبوي الذي أتى بدونالد ترامب.
عالم جديد في الأفق؟
تذكر هجمات 11 سبتمبر الوحشية التي خلفت أكثر من 3000 قتيل مدني وانتصاب الولايات المتحدة في صورة «الضحية» يلزمها اليوم بالاعتراف بما قامت به من فضاعات في حق شعوب المنطقة. تترك واشنطن أفغانستان التي احتلتها وعدد سكانها 20 مليون وتتركها اليوم وقد تضاعف عدد سكانها إلى 40 مليون نسمة نصفهم أقل من سن العشرين. ليس لهم رزق ملموس سوى ما يجنيه طالبان والقبائل الأفغانية من منتوج 90% من الأفيون في العالم. شعب فقير لا زال يعيش في القرون الوسطى بدون مرافق حياة محترمة تحفظ الكرامة الإنسانية. طالبان، كما قالها الباحث أوليفيهروا، ليسوا إرهابيين دوليين يبثون الإرهاب في العالم. هم أصوليون إسلاميون متطرفون سوف يكون لهم شأن في أفغانستان وقد وقعوا مع واشنطن اتفاقا بعدم نشر الإرهاب في العالم.
لكن ذلك لن يخدم الولايات المتحدة في المستقبل لأن العملاق الصيني وقع مع الحكام الجدد للبلاد اتفاقا يقضي بإعادة إعمار البلاد وتركيز بنية تحتية تخدم مشروع «طريق الحرير الجديدة». مما يعني أن الصين وروسيا التي مدت طالبان بالسلاح والعتاد من صنع شركة كلاشنكوف سوف تخلف الدور الأمريكي وتتقاسم السيطرة على ذلك الممر الأساسي في المنطقة. خلال عشرين سنة منذ أحداث 11 سبتمبر ركزت فيها واشنطن على حروبها في منطقة الشرق الأوسط وآسيا لدعم اقتصادها الحربي وخاصة مؤسسات لوكهيد وبوينغ في حين كانت بيكين تعمل على تطوير قدراتها الذاتية في كل المجالات لتصبح أحد زعماء العالم في السنوات القادمة وتنافس بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تقهقر نفوذها الاقتصادي والثقافي ليترك المجال واسعا إلى منافسين كانوا خصوما في الماضي. وهو ما يفسر المكالمة الهاتفية التي تمت بين الرئيسين جو بايدن وسي جين بينغ والتي حرص فيها الجانب الأمريكي على تمرير قبول المنافسة مع الصين دون الدخول في نزاعات وحروب.