وإرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية ودفع التنمية ومقاومة الفساد وتبسيط الإجراءات الإدارية ثم تختتم هذه الوثيقة بتأكيد رئيس الجمهورية على أن فرص نجاح تونس لا تزال متوفرة وهي لم تتحقق إلى الآن».
ويعزو ذلك لعدم تحديد الأولويات المشتركة بين البرلمان والحكومة وكذلك لغياب «انخراط شامل في برنامج مشترك من طرف المنظمات والأحزاب والحكومة» ويختتم رئيس الجمهورية نص هذه المبادرة بتأكيده على ضرورة «قيام حكومة وحدة وطنية تتميز عناصرها بالكفاءة والنزاهة والتناغم لضمان نجاعة أدائها بعد أن يصادق البرلمان على أولوياتها آنفة الذكر».
هذا وقد وجهت رئاسة الجمهورية هذه الوثيقة مساء يوم أمس إلى كل الأطراف (الاجتماعية والسياسية) المشاركة في الحوار حول تشكيل حكومة وحدة وطنية حتى تكون هذه الوثيقة المكتوبة الأرضية السياسية التي تؤطر هذه المبادرة...
مبادرة رئيس الجمهورية حول تشكيل حكومة وحدة وطنية (2 جوان)
I - تشخيص الوضع العام:
مقدمة:
تعيش تونس منذ وقت ليس بالقريب أزمة حقيقية ذات أبعاد مختلفة تجعل من واجبنا الوقوف عليها.
على الصعيد السياسي تعالت منذ مدة أصوات العديد من مكونات المشهد السياسي سواءا كانت أحزابا في الحكم أو كانت خارجه داعية إلى الإنقاذ. ودعّمها في ذلك مواقف مشابهة للمنظمات الوطنية الكبرى.
على الصعيد الاقتصادي تمثّلت الأزمة في محدوديّة المنتظر من الوضع القائم في ظل النقص الفادح للاستثمارات الداخلية والخارجية وضعف فرص التشغيل.
الجانب السياسي:
لقد دخلنا في الفترة الماضية مرحلة من التشكيك تميزت برفض الاعتراف بوجود مكاسب وطنية من قبل عديد الأطراف وهو خطاب بعيد عن الواقع المجحف. فقد حققت تونس نقلة نوعية على مستوى الحريات الفردية والجماعية وخاصة حرية التعبير والصحافة والحريات السياسية والإعلامية، انتقلنا بفضلها من دولة الحزب الواحد والرأي الواحد إلى دولة الآراء المتعددة والأحزاب المتنوعة ومن نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي يمارس فيه الشعب سيادته عبر صناديق الاقتراع وهو ما أفرز لأول مرة في تاريخنا رئيسا منتخبا انتخابا حرا ومباشرا في انتخابات حرة وشفافة اعترف الجميع بمصداقيتها.
كما أفرز برلمانا تعدديا يمثّل كل الحساسيات الفكرية وهو الفضاء الأصلي الذي من المفترض أن تمارس من خلاله كل الحوارات وتدار فيه كل الخلافات والاختلافات ويصوّت فيه على القوانين.
وقد كان للبعد الاجتماعي أهمية بالغة تجسدت في إمضاء اتفاقية السلم الاجتماعي المبرمة بين الحكومة والأطراف الاجتماعية وبإشراف رئيس الجمهورية وحصلت بمقتضاها زيادات هامة في الأجور رغم قلة الإمكانيات وصعوبة الظرف الاقتصادي.
ورغم كل هذا فإن سلوك العديد من الأحزاب لم يعد منسجما مع مقتضيات المرحلة إذ نجد أن التشكيك متواصل، وهنالك من يتحدث عن تراجع في الحريات الإعلامية بينما لدينا 85 جريدة، 44 إذاعة و14 قناة تلفزية، وأكثر من 80 موقع إلكتروني وجميعها لها الحرية في اختيار البرامج والضيوف والمواضيع، ولم تتدخل السلط يوما في شانها وهنالك من لامنا في ذلك، ولم تشتك رئاسة الجمهورية مرة واحدة أي صحفي رغم وجود تعدّ لحدود اللياقة، وهنالك من يتهمنا بالعودة لأساليب الاستبداد في حين أننا ضامنون لحق الجميع في التعبير عن الرأي بحرية والتظاهر بسلمية ولكن في حدود الحفاظ عن الأمن القومي وتطبيق القانون الضامن الوحيد للحريات والديمقراطية.
وهنا أريد أن أتعهّد أمام الشعب التونسي صاحب السيادة أنه لا عودة للوراء، لا تراجع عن الحريات ولا مجال لعودة الاستبداد.
لكن وجب علينا جميعا إرساء سلوك جديد للتعامل بين مختلف الأحزاب ينبني على الاحترام المتبادل بين الأغلبية والأقلية، ويكون بمستوى النظام الديمقراطي الذي تم إرساؤه، تبتعد بمقتضاه الأقلية عن منطق المواجهة والتصادم كما تراعي فيه الأغلبية المواقف المتباينة وذلك بالاستماع والحوار والإقناع بعيدا عن منطق المغالبة. ويبقى البرلمان الفضاء الأمثل للحوار السياسي.
الجانب الاقتصادي:
وهذا التمشي الديمقراطي لا يمكن له النجاح بدون إرساء دولة القانون من أجل حماية المكاسب وتحسين مقدرات الدولة في الإنتاج الذي بدونه لا يمكن لنا الاستجابة لمطالب التشغيل.
لقد قامت الثورة من أجل الحرية والكرامة ولا كرامة بدون شغل لائق.
اليوم ورغم أننا حققنا الحرية والديمقراطية ولكن ذلك يبقى مرتبطا بقدرتنا على تحقيق الكرامة للشعب وللجهات المحرومة والشباب المهمش الذي قام بهذه الثورة وهو يشعر اليوم بإحباط شديد نظرا لأنه بدل أن يتحصّل على شغل نجد أن نسبة البطالة قد ازدادت سواء بالنسبة لأصحاب الشهائد أو غيرهم وقفزت من 13 % في 2010 إلى 15,4 % في 2015 وهذا غير مقبول وقد يُفسَّر ذلك بخصوصية الفترة الانتقالية وصعوباتها ولكن اليوم لا عذر لنا وعلينا القيام بإجراءات عاجلة للخروج من هذا الوضع.
وأول هذه الإجراءات إعادة النسق الطبيعي لعجلة الإنتاج فمن غير المعقول أن يكون إنتاج الفسفاط سنة 2015 في مستوى إنتاج عام 1928 حيث كان يجري العمل بالوسائل البدائية وخسائرنا في هذا القطاع منذ 2011 فقط حوالي 5000 مليون دينار وهو ما يعادل القرض الأخير الذي صادق عليه صندوق النقد الدولي.
للأسف فمظاهر تعطّل الإنتاج ليست في الفسفاط فحسب بل في العديد من القطاعات الحيوية مثل الغاز والبترول، وما يحصل في هذا القطاع لا يمكن السكوت عنه، إذ أنه لم يتم حفر سوى 8 آبار في 2015 في حين أنه تم حفر 38 بئرا في 2010 وهذا ما يكلّف الدولة خسائر كبرى فبدل أن يغطي الإنتاج 93 % من استهلاكنا، نراه لا يغطي سوى 55 % منه ومع هذه الخسائر الفادحة شهدنا زيادات هامة في الأجور وانتقلنا من حوالي 6700 مليون دينار في 2010 إلى 13000 مليون دينار في 2016، وهي زيادة بحوالي 92 % في حين أن الميزانية لم ترتفع سوى بـــ 55 %.
وهو ما جعل الدولة غير قادرة على الإيفاء بواجباتها تجاه العاطلين لتشغيلهم أو بفتح الآفاق أمامهم.
II - أولويات المرحلة المقبلة:
هذه الخسائر تعود أساسا إلى عجز الدولة وقد كنت أشرت إليه في خطاب 20 مارس 2016 وأكدته في حواري التلفزي ليوم 02 جوان 2016 وهذا الوضع متواصل ولا يجب أن يستمر خاصة وأن انعكاساته السلبية أثّرت على مقدرات الدولة في مجالات الاستثمار والتشغيل وهي أهداف أساسية تندرج ضمن أسس الأمن القومي التونسي ونحن نعلم جميعا أن الفقر والتهميش وغياب الأمل لدى شرائح واسعة من المجتمع من شأنه أن يساعد الإرهابيين على استقطاب الشباب والتغرير بهم ودفعهم إلى صفوف أعداء الوطن.
الحرب على الإرهاب:
لقد أعلنّا الحرب على الإرهاب دون هوادة ولقد نجحت قواتنا المسلحة في عمليات استباقية كثيرة وارتفعت جاهزيتها وكان هذا بفضل الإرادة السياسية والرفع من الاعتمادات الموجهة لهم بحوالي 4000 مليون دولار أمريكي، وبفضل العزيمة الكبرى المتوفرة لديهم. غير أنه لا يمكن حسم هذه المعركة إلا بإرساء دولة القانون التي تتمثل في احترام المواطنين للدولة وإنهاء حالة التسيب وقطع الطرقات ومنع الناس من العمل وغيرها من مظاهر الفوضى. كما تتجسد دولة القانون في المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وأول هذه الحقوق، الحق في الشغل اللائق وفي العيش الكريم وهنا يكمن دور الدولة في تحسين ظروف المواطنين في المناطق المهمشة التي لا توجد فقط في الجهات الداخلية، ففي تونس العاصمة هنالك أحياء كبرى مهمشة وهي ذات كثافة سكانية عالية،
إرساء سياسة خاصة بالمدن والجماعات المحلية:
علينا إيلاء المدن والأحياء الكبرى أولوية خاصة تتجسد في إرساء سياسة واضحة للمدينة تجعل من كل المناطق فضاء مريحا للاستثمار والعمل وللعيش والترفيه. إذ لا يمكن لمدينة أو منطقة أن تشهد نقلة نوعية في وضع متساكنيها المزري بدون وجود مرافق لائقة من مدارس ومعاهد ومستوصفات وكذلك دور سينما ومسارح ومكتبات عمومية في محيط نظيف، وهذا من أبرز سمات الشعوب المتحضرة.
وإذا كانت محاربة الإرهاب أولى أولوياتنا حيث انه يشكّل تهديدا لكيان الدولة التونسية. ونحن ماضون في العمل من أجل تدمير الجماعات الإرهابية، فإننا لا يمكن أن ننتصر عليه بدون اعتماد منوال تنمية جديد يشعر فيه التونسيون بالانتماء لهذا الوطن ويبتعد فيه الشباب عن شراك المجموعات الإرهابية وتُنتَجُ فيه الثروة في أغلب ربوع البلاد.
دفع التنمية:
وإذا كان مخطط التنمية الذي تم إعداده عنصرا مهما فإنه يبقى غير كاف والانتظارات أكبر بكثير وهو شيء مفهوم يجعل من واجبنا مزيد السعي من أجل جلب الاستثمارات الخارجية ودعم الاستثمارات الداخلية والتشجيع عليها والحد من تفاقم ظاهرة التجارة الموازية وهذا يتطلب تمتين الثقة بين الدولة والقطاع الخاص وهو ليس مجرد شعار يُرفع ولكن جملة من الإجراءات العاجل اتخاذها على المستويين التشريعي والتطبيقي.
مقاومة الفساد:
أول إجراءات دعم الثقة بين الدولة والمواطن من جهة، والدولة والمستثمرين من جهة أخرى هو بلوغ أعلى درجات الشفافية والحوكمة الرشيدة وهذا يحصل بمقاومة الفساد وإعلان الحرب عليه، وما وجود هيئة دستورية مكلّفة بمكافحته إلا إبراز لإرادة الدولة في هذا المضمار، ولكن يبدو جليا أن هذا الإجراء غير كاف.
والجميع يردد أن الفساد استشرى في مختلف مجالات الحياة، وهذا ليس بجديد في تونس. فقبل 14 جانفي تحدثت منظمات دولية تعنى بهذا الشأن وأكدت أن تونس تخسر سنويا 2 نقاط في معدل التنمية بسبب الفساد وكان ترتيب تونس 65 في 2010 ولكن الفساد كان موجودا في أعلى هرم الدولة والمنظومة التابعة لها ولكن اليوم أعتقد أن الفساد استشرى على كل المستويات وأصبح ترتيب تونس في هذا المجال 76 مما أضر بالبلاد والثورة والديمقراطية، ولذا وجب التصدي له وذلك عبر الإسراع في سن مشاريع قوانين حماية المُبلِّغين عن الفساد وتعميم التصريح بالمكاسب لمسؤولي الدولة والتصدي للإثراء غير المشروع وكذلك عبر القيام بتدقيق شامل لتقارير هيئات الرقابة والتدقيق للأربع سنوات الأخيرة على الأقل، لكن هذه الإجراءات لن تكون كافية بدون مشاركة المواطنين والمجتمع المدني في هذا المجهود إذ لا يمكن الانتصار على هذه الآفة وهي مدمرة للأوطان تماما كالإرهاب، إلا بتظافر وانسجام الدولة والمواطن ولان نتائجها تعود بالفائدة على الجميع، فخسارة نقطتين أو ثلاث في نسبة النمو يعني خسارة ما بين 30 و45 ألف موطن شغل، وهذا غير مقبول، دون اعتبار الأموال التي لم تدخل خزينة الدولة جراء الفساد والتي كان من الممكن توجيهها للاستثمار في مشاريع تعود بالنفع على المجموعة الوطنية.
تبسيط الإجراءات الإدارية:
ولتأمين النجاح في مقاومة الفساد، لا بد من الانخراط الواسع من طرف الإدارة التونسية، التي وإن أثبتت صلابتها وجدواها وحمت الدولة من الانهيار إبان ثورة 14 جانفي، إلا أنه تم إنهاكها في السنوات الأخيرة وهي اليوم تستحق العناية بها وإدخال إصلاحات عميقة عليها. فمدخل الإسراع بالإنجازات وتحقيق الأهداف هو تبسيط الإجراءات الإدارية وتعميم الإدارة الالكترونية.
إن الوضع الصعب الذي نعيشه اليوم يفرض علينا وضع هذه الأولويات نصب أعيننا والعمل الجاد على تحقيقها في أسرع وقت ممكن، وهذا يتطلب تظافر كل الجهود ويفترض وجود لحمة بين الفاعلين السياسيين من جهة والمنظمات الوطنية الكبرى والمجتمع المدني ووسائل الإعلام من جهة أخرى وهنا أذكر بأنه وحدها الوحدة القومية بعد الاستقلال هي التي مكنت تونس في ذلك الوقت من الخروج من الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد وأؤكد لكم أنها كانت أصعب بكثير من الوقت الراهن والشعب لم يكن متعلما وعلى درجة من الوعي التي يتميز بها اليوم.
III - فتح آفاق:
أعتقد أن فرص نجاح تونس لا تزال متوفرة وهي لم تتحقق إلى حد الآن، لأنه لم يتم تحديد الأولويات المشتركة بين البرلمان والحكومة من ناحية وكذلك لغياب انخراط شامل في برنامج مشترك من طرف المنظمات والأحزاب والحكومة، وعليه يصبح اليوم من الواجب قيام حكومة وحدة وطنية تتميز عناصرها بالكفاءة والنزاهة والتناغم لضمان نجاعة أدائها بعد أن يصادق البرلمان على أولوياتها آنفة الذكر.
إن الوحدة الوطنية التي ترتكز على أهداف مشتركة وآليات عمل واضحة قادرة على الإسراع في الاستجابة لانتظارات المواطنين وإعادة الأمل لهم وهي تضمن الانخراط الواسع لكل الفئات الاجتماعية والشعبية في البرامج المحددة سلفا، وبإمكانها تذليل الصعوبات الماثلة أمامنا، مما يحتم علينا البدء في حوار واسع مع كل الأطراف المنخرطة في هذا التوجه، والمتبنية لهذه الأرضية.
رئيس الجمهورية
محمد الباجي قايد السبسي