لنظام بن علي وتمت دعوة الدولة التونسية بعد التدقيق إلى عدم الاعتراف بها وفق الآليات الأممية بعد كل انتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ..وتكررت فكرة التدقيق هذه عند أحزاب معارضة كثيرة منها التي وسعت فترة التدقيق (قبل وبعد الثورة) ومنها التي طالبت بها فقط لهذه العشرية الأخيرة (الحزب الدستوري الحرّ) ولكن هذه أول مرة تطالب فيها الدولة ممثلة في رئيسها بذلك..
التدقيق، نظريا، يهدف إلى أمرين اثنين : هل حصل تلاعب – أي سرقة – بالقروض والهبات الموجهة للدولة التونسية أولا، وثانيا هل تم صرف كل هذه المبالغ وفق قواعد الحوكمة الرشيدة أم لا وهل شاب بعض هذه العمليات فساد أم لا ؟
الفرق واضح بين هذين المستويين من التدقيق، في المستوى الأول يتهم كبار مسؤولي الدولة بالسرقة وتحويل وجهة المال لغايات شخصية أو حزبية والثاني يتعلق بنجاعة الإنفاق العمومي وشفافيته لهذه القروض والهبات ..
الواضح والجلي أن اتهام رئيس الدولة هو من الصنف الأول وأنه يعتبر أن جزءا من هذه القروض والهبات لم تدخل أصلا إلى خزينة الدولة وانه تم تحويل وجهتها إما في الخارج (كقصة هبة 500 مليون دولار ) أو في الداخل ولهذا طلب منذ شهر أكتوبر الماضي في مجلس وزاري من وزيرة المالية التدقيق – على معنى المستوى الأول أساسا – في القروض والهبات التي تحصلت عليها تونس ..
اكتشفنا يوم أول أمس بمناسبة استقبال رئيس الجمهورية لفريد بلحاج نائب رئيس البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن لجنة التدقيق لم تحدث بعد وأن تونس بحاجة إلى خبرات البنك العالمي لذلك وهو ما يفيد بوضوح أن وزارة المالية لم تجد خلال هذه الأشهر الأخيرة ما يفيد اختلاس هذه القروض والهبات وذلك لان الاختلاس المباشر للقروض والهبات هو ببساطة أمر مستحيل لا في العشرية الماضية فحسب بل في كل العشريات السابقة..
وكانت كل القروض والهبات التي تحصلت عليها الدولة التونسية بعد مفاوضات واتفاقيات مع الأطراف المانحة ،ثم إنها لا تحول كلها إلا متى كانت لدعم الميزانية أما اذا تعلقت بمشاريع فيتم تحويلها بإقساط وفق تقدم الأشغال وبعد مراقبة الجهة المانحة لسلامة التقدم الجزئي للانجاز تقنيا وماليا ..
لقد تأكد خطأ كل تلك الإشاعات التي تحدثت عن اختلاس بن علي وزوجته لأموال أو لسبائك ذهبية من خزينة الدولة المحفوظة بالبنك المركزي ..
هل يعني هذا أن تونس خالية من الفساد أو من اختلاس المال العمومي قبل الثورة أو بعدها..طبعا لا ولكنه ليس اختلاسا من القروض والهبات الموجهة للدولة وهو كذلك ،في الأغلب الأعم،ليس سرقة مباشرة للأموال بل استفادة من بعض الصفقات العمومية أو من تحويل صبغة أراض للدولة أو من عقد شراكات وهمية وكل هذه الأصناف مذكورة في التقرير الشهير للمغفور له عبد الفتاح عمر ..
صحيح أن مديونية الدولة التونسية ثقيلة بالنسبة للثروة التي ننتجها ولكنها ضعيفة إلى حدّ كبير لو قارناها ببلدان أخرى في حجم تونس .
في نشرية الدين العمومي لشهر نوفمبر الماضي التي أصدرتها وزارة المالية نجد أن حجم الدين العمومي كان في حدود 102 مليار دينار (إلى موفى شهر أكتوبر 2021) منها 62 مليار دينار ديونا خارجية. في الحقيقة لم تقترض تونس هذا المبلغ (62 مليار دينار) ولعلها اقترضت دون 50 مليار دينار ولكن الفارق يكمن في احتساب الديون بالدينار وأخذا بعين الاعتبار تراجع قيمة صرف الدينار على امتداد العشرية الفارطة وخاصة في سنتي 2017 و2018.
لم يثبت إذن ،إلى حد اليوم،أن جهة ما تمكنت من اختلاس قرض أو هبة قبل وصولها إلى خزينة الدولة واحتمال حصول هذا ضئيل للغاية ولكن الإشكال الأساسي يكمن في سياسات الإنفاق العمومي منذ 2011 إلى حدّ اليوم حيث لجانا إلى التداين لا لخلق الثروة بل لشراء السلم الأهلية إذ لا يكاد يتجاوز معدل نسبة مواردنا الذاتية الجبائية وغير الجبائية من ميزانية الدولة الثلثين،أي أننا نقترض خارجيا وداخليا في كل سنة حوالي ثلث المبلغ الإجمالي للميزانية وهذا انتحار جماعي نحن بصدد دفع فاتورته الأولية والثمن الأهم والأخطر مازال أمامنا ..
هل أن لتونس ديون كريهة ؟ أي ديون وقع تحويل وجهتها بصفة جوهرية من خدمة التنمية الى خدمة النظام وتلميع صورته فقط لا غير ؟ قد يكون حصل هذا قبل الثورة أو بعدها ولكن نسبتها ضئيلة للغاية وطرق إثباتها صعبة كذلك، خاصة عندما نتحدث عن قروض الدعم المباشر للميزانية لكن وفي كل الأحوال فقد تم خلاص جلّ ديون نظام بن علي علاوة على أنّ نسبة مديونية البلاد في 2010 كانت دون %41 من الناتج ثم نحن ننسى أيضا أننا نسدد سنويا جزءا من ديوننا تحت مسمى خدمة الدين (أصل الدين زائد الفوائد) وخدمة الدين تمثل خلال العشرية ما بين نصف التداين السنوي (في البداية) إلى حوالي ثلاثة أرباعه في السنوات الثلاث الأخيرة، فنحن لا نقترض في الحقيقة 20 مليار دينار خلال سنة 2022 بل 6 فقط على وجه التداين الصافي باعتبار أننا سنسدد خلال نفس السنة 14 مليار دينار .
هنالك إذن مبالغة مفرطة وغير مبررة لحجم الأموال «المنهوبة» من تداين الدولة وكأننا نريد أن نقول لعموم التونسيين أن الإشكال لا يكمن في هذه السياسات غير الرشيدة والتي تتواصل الآن مع حكومة بودن وان الحل الفعلي هو في خلق الثروة بنسق ارفع بكثير عبر التصدير والابتكار وضخّ الذكاء في كل
منتوجاتنا الفلاحية والصناعية والخدماتية وتعصير الدولة بالتقليص من إنفاقها في تصرفها العادي والزيادة من استثمارها ونجاعتها وفاعليتها ..هكذا وهكذا فقط نحد بصفة جذرية من التداين ونقلص من البطالة ونرفع من مستوى عيش عموم التونسيات والتونسيين .
صحيح أن طريق العمل الجدي لا يتناغم كثيرا مع الشعارات الشعبوية البراقة .