تلك كانت الاولوية المطلقة لدى كل من أمسك بالحكم منذ 2011 الى حد اليوم. وقد تمددت ازمة المالية العمومية لتصل الى مراحل تعجز فيها الدولة عن دفع ثمن حمولة قمح.
مرت ثلاثة اسابيع منذ قدوم سفينة الشحن المحملة بـ67 الف طن من القمح اللين والتي رفض طاقم السفينة القيام بتفريغها ما لم يقع الاستظهار بما يفيد خلاص الحمولة. خبر اعلن عنه في 18 اكتوبر 2021 الفارط والى حد اليوم لازالت قابعة تنتظر تفريغ الحمولة اذا وقع سداد المستحقات المالية من قبل ديوان الحبوب التونسي. وفي الاثناء تتراكم خطايا التأخير لتبغ مليون دينار تونسي.
هناك ايضا اعتصام يتطور ليصبح اليوم. يوم غضب وطني امام الصندوق الوطني للتامين على المرض «الكنام»، بعد فشل جلسات التفاوض التي كشف فيها ان الصندوق يعاني من ازمة سيولة نقدية طالت خزينة الصندوق وحسابته فحالت بينه وين الإيفاء بتعهداته وصرف مستحقات المتعاقدين مع الصندوق والمتمتعين بخدماته.
خبران يعلنان بشكل صريح عن وجود ازمة اعقد مما يعلن عنه في الخطاب الرسمي للدولة التونسية، فجوهر هذين الخبرين كما العشرات من الاخبار المشابهة لهما. على غرار نقص الادوية بسبب عدم سداد الصيدلية المركزية للمستحقات المالية المتخلدت بذمتها، ازمة «الزيت النباتي» بسبب صعوبات الاستيراد الناجمة عن عجز الديوان الوطني للزيت عن الايفاء بتعهداته المالية مع المزودين ونقص السيولة لديه للقيام بالاستيراد وغيرها من الامثلة التي تكشف عن «خواء خزينة الدولة».
خواء عبر عنه الرئيس في اجتماع المجلس الوزاري يوم الخميس الفارط بقوله «لا احد ينكر الازمة المالية» دون ان يكشف فعليا عن عمق هذه الازمة التي تراكمت في السنوات العشر نتيجة لسياسات الحكومات والأغلبية المتعاقبة على البلاد والتي عجزت عن جعل الملف الاقتصادي ومسألة المالية العمومية من اولوياتها.
ازمة عنوانها الكبير تعثر في تعبئة الموارد المالية اللازمة لتتمكن الدولة من الايفاء بتعهداتها المالية الداخلية والخارجية. مما دفع برئيس الدولة الى دعوة المواطنين للتبرع بشكل ضمني. ولكن هذا العنوان يحجب تفاصيل عدة وهي ان البلاد باتت في حلقة مغلقة من العبث.
عبث يعبر عن نفسه بتفاصيل تقنية عدة، يمكن تقديمها في صورة مبسطة. وهي ان الدولة التونسية ومنذ اشهر بلغت اقصاها في تأجيل المحتوم وهو الاقرار بان حجم ديونها يتجاوز المعلن عنه. اذ قدمت نشرة الدين العمومي الصادرة عن وزارة المالية، في جوان الماضي رقما قدر بـ 99.29 مليار دينار كحجم للديون تتوزع بين 62.01 مليار دينار ديون خارجية و37.28 مليار دينار ديون داخلية، دون احتساب ديون المؤسسات العمومية المقدر بقرابة 18 مليار دينار تونسي.
هذا الرقم هو حجم ديون مؤسسات كديوان الحبوب والديوان الوطني للزيت وشركات عمومية اقترضت من الاسواق المالية بضمانات من الدولة التونسية، يكشف عن الازمة التي تواجهها البلاد ويبين نسبيا شح السيولة لدى جزء من المؤسسات العمومية العاملة في قطاعات حيوية كالغذاء والصحة الخ.
ازمة تخفى في تفاصيلها الكثير، من ذلك ان سوء الحوكمة والتخطيط، فالدولة التونسية وفي ادارتها للملفات المالية انتهجت سياسات كارثية انتهت اليوم الى ان تصبح ازمة سيولة نقدية شاملة لكل المؤسات وللخزينة العامة للبلاد التونسية.أي اننا امام ازمة سيولة شاملة بما يعنى عجزا عن توفير موارد مالية للإيفاء بالنفاقات الاساسية دون احتساب نفقات الاجور، التي يبدو انها تحظى بتركيز وجهد كلي من الحكومة التونسية، التي تكشف عن تفاصيل من بينها عدم صرف مستحقات الصناديق الاجتماعية المتأتية من عملية الاقتطاع من الاجور، او من المساهمة الاستثنائية او من العائدات الجبائية وان هذه المبالغ توجه الى ابواب انفاق اخرى.
ويبدو ان ابواب الانفاق الاخرى التي يوجه اليها النصيب الاكبر من المبالغ التي يقع تعبئتها من السوق الداخلية او العائدات الجبائية توجه إلى الأجور بالأساس، وهذا ما يشرح عجز ديوان الحبوب مثلا عن سداد ثمن شحنة القمح اللين طوال الاسابيع الثلاثة الفارطة، وعجز صندوق التامين على المرض عن صرف مبالغ للمستفيدين من خدماته منذ جويلية الفارط وقس على هذا.
ولئن كانت الازمة قد حجبت طويلا، فان الخشية كلها في ان يكون الانهيار مشهديا ومتزامنا لا فقط في القطاع العام بل كذلك في القطاع الخاص الذي بدوره ينتظر صرف مستحقاته المتخلدة بذمة الدولة التونسية، ففي 2020 قدر رئيس الحكومة السابق الياس الفخفاخ حجم ديون الدولة لمزودي الخدمات بـاكثر من ملياري دينار، ويبدو انها قد ارتفعت في ظل ازمة السيولة وعدم سداد الدولة لديونها. مما يهدد ديمومة مؤسسات اقتصادية خاصة .
أي اننا اليوم في ما يشبه الحلقة المغلقة، توجه فيها الموارد المالية التي يقع تعبئتها لسداد الاجور واغفال بقية ابواب الانفاق مما يعنى بشكل غير صريح «الإفلاس».
10 سنوات من السياسية وإهمال الاقتصاد : شحنة القمح التي تخفي «إفلاس» الدولة
- بقلم حسان العيادي
- 09:34 09/11/2021
- 894 عدد المشاهدات
الازمات لا تأتي فجأة إلا لمن غفل عن التقاط المؤشرات المعلنة عن قدومها. هذا للأسف حال البلاد التي هيمن فيها «السياسي» على كل الاحداث