منبــــر: في ضرورة تنسيب «الاستثناء التونسي»

بقلم: مسعود الرمضاني
عند استضافة جامعة منوبة ادغار مورانEdgar Morin منذ سنوات ، تحدث الفيلسوف الفرنسي امام حشد كبير من الطلبة

والأكاديميين عن الديمقراطية ،مشيرا الى فهمها «المركّب» الذي يتجاوز ارادة الشعب في اختيار من يمثله ، وهي ارادة يمكن ان تتحوّل الى نوع من التمييز والتفاضل و حتى السيطرة ، مضيفا انه من السذاجة والسطحية بمكان اختزال الديمقراطية في توسيع المشاركة السياسية واجراء الانتخابات وفصل السلطات ، اذ هي (أي الديمقراطية) ممارسة مسؤولة تفسح المجال «للآخر المختلف» بالتواجد وتحميه مما قد يطاله من تجاوزات ناتجة عن «ديكتاتورية الاغلبية» وهي ايضا تناغم مؤسسات الدولة واقتناعها بالعمل المشترك ، مهما بلغت درجة الاختلاف والتعارض بينها لان في ذلك تحصين المجتمع من الاستبداد وتكريس لمبدأ التنوع داخله ، محذرا من ان الديمقراطية تظل هشّة وقابلة للارتداد ، وارتدادها يعني سيطرة الرأي الواحد والفكر الواحد والايديولوجية الواحدة ، وهو ما يهيئ الى الاعتقاد في حقيقة سرمدية غير قابلة للدحض أو التنسيب وهي سمة من سمات الديكتاتوريات العسكرية والمدنية أو الحكم التيوقراطي، الذي يستمد شرعيته من «التفويض الالاهي» .

• شيء من التواضع !
وفي تونس ، اذا ما اردنا حقاّ تعميق الممارسة الديمقراطية ، فنحن مطالبون اولا بالتحلّي بشيء من التواضع ، بعد ان لازمنا غرور دام عشر سنوات ، حين رأى فينا العالم قصّة النجاح الوحيدة في المنطقة العربية التائهة بين الحروب الاهلية وعودة الديكتاتوريات ، وراهن الجميع على اننا نمتلك كل الشروط التاريخية والثقافية وحتى السياسية لبناء ديمقراطية تونسية فريدة قابلة للتحوّل من مجرد انتخابات دورية وتداول سلمي على المسؤولية وصحافة تتملك نسبة من الحرية (رغم محاولات الالتفاف و الردة) الى ثقافة سياسية منفتحة ومؤسسات قوية وعدالة حقيقية...
كانت اولى عراقيل استكمال الثورة ووضعها على سكة التغيير الحقيقي هي قلب اولوياتها ، اذ بينما كانت اهداف الثورة واضحة بجغرافيتها وقيادتها ومطالبها ، المنادية بالتخلّص من التهميش الاقتصادي ومواجهة الفساد والمحسوبية وحفظ كرامة المواطن بالشغل ،غابت عن النخب الحاكمة القراءة الصحيحة لشعاراتها واقتصر الصراع السياسي منذ السنوات الاولى على الفوز بالسلطة والتمكن من البقاء اطول فترة ممكن في الحكم للسيطرة على مفاصل الدولة واجهزتها.
وقد استفادت النخب السياسية عبر تعبيراتها الحزبية ، سواء منها حديثة التكوين أو تلك التي لها تاريخ في الصراع مع السلطة «للفوز السلطة» ، من تنظيمها الحزبي وامكانياتها المالية ودعايتها الاعلامية ، لتتحوّل الى عائق لمطالب الثورة وتقلب الصراع حول التنمية والعدالة الى صراع سياسوي (واحيانا ايديولوجي متكلّس) ، تغيب فيه البرامج و الدراسات وخطط النهوض ومحفزات التنمية ،

• تعميق الاحساس بالتشاؤم:
وطبيعي ان مثل هذا التوجه سيفاقم الازمة الاقتصادية والاجتماعية التي بدأت تحتدّ حتىّ قبل الثورة وكانت سببا مباشرا لها ويعمّق الهوّة بين النخب السياسية المنشغلة ببقائها في السلطة والتي تفتقر احيانا حتى المعرفة بأدوات الحكم ومتطلبات المسؤولية وبين شباب امتلكه اليأس من تحسين اوضاعه فكفر بالثورة وبات يبحث عن طرق غير ما حلم بها لضمان بقائه على قيد الحياة ، عبر الهجرة بمختلف اشكالها ، حتى ولو كلفته الموت في البحر ، او بالالتحاق ببؤر التوتر عساه يضمن الجنّة بعد ان تأكد أن الحياة الدنيا ستظل عسيرة ودون افق في وطن دفع من دمه الكثير ليستعيده...
وحالة اليأس والتشاؤم لا تخص الشباب فقط ، بل مجمل التونسيين الذين ظلوا اسرى ازمة سياسية لا يدركون متى تنتهي ولا كيفية الخروج منها، ولا ادل على هذا التشاؤم من النسب المحبطة التي اظهرها الباروميتر السياسي الذي انجزه كلا من «سيقما» وجريدة المغرب والذي اظهر ان حوالي 93 ٪ من المواطنين التونسيين يرون ان بلادهم تسير في الاتجاه الخطإ.

وهذا التشاؤم مرتبط ، في اعتقادي، بأمرين: حالة الوباء التي انتشرت بشكل مرعب نتيجة سياسات خرقاء غابت فيها الكفاءة وذكاء الاستباق والتخطيط و سيطر عليها التخبط وسوء التقدير والعناد، وايضا صراع عبثي بين الرئاسات حول الصلاحيات وتوسيع مجالات الحكم والتحفز لتسجيل النقاط على الخصوم ، والغريب ان لهؤلاء من الوقت الكافي والبلاد تغرق في ازمة تزداد تعقيدا، ان يبحثوا في تغيير النظام السياسي وتحوير الدستور وبرمجة الاستفتاءات لترجيح كفة سلطة كل منهم.

• هكذا تولد الديكتاتورية:
يرى الصحفي الفرنسي اللامع جان ميشال كاتربوان Jean-Michel Quatrepoint ان الفاشية «لا تسقط من السماء « بل انها «تتغذّى من تفقير الشعوب واحباط الطبقة الوسطى وعمى النخب».
وان استفادت الدول الغربية من التجربتين الفاشية والنازية وتعلّمت من نتائجها الكارثية التي ادت الى حرب مبيدة ،فحصنت مؤسساتها بمزيد الاستقلالية والكفاءة ، فان بلدانا مثل تونس ، لازالت في بداية خطواتها الاولى نحو ترسيخ الديمقراطية، مهددة بالانتكاس ، يدفعها حكام استعاذوا عن بناء المؤسسات وتقويتها بالاستجابة لإغراءات السلطة ، فجرّوا مؤسسات الدولة الى دائرة صراعاتهم الشخصية وتحايلوا على الدستور للغنيمة بسلطات اوسع ، غير عابئين بدقة المرحلة وخطورة الاوضاع، فهل من طريقة لوقف النزيف؟.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115