حول موضوع جلل بل لعله من أخطر ما يمكن أن تتعرض له الدولة بإطلاق وهو محاولة تسميم رئيس الجمهورية ..
لاشك أن الصحفي لا يعبأ كثيرا بما يسميه بعضهم «المصلحة العليا للدولة» وهو شعار عادة ما تلجأ إليه النظم الاستبدادية لتكميم الأفواه،ولكن هنالك أيضا ما يمكن أن نسميه بالمسؤولية الاجتماعية للإعلام تماما كما نتحدث عن المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة الاقتصادية .
لو رمنا الاعتدال في التوصيف لقلنا بأن التصرف الإعلامي لمصالح رئاسة الجمهورية (بالمفهوم العام للكلمة ولا نقصد هنا تحديدا مصلحة الإعلام بالرئاسة) في موضوع الطرد المشبوه كان سيئا إلى ابعد الحدود .تصرف لا يليق بمصلحة عادية في الدولة فما بالك برمز سيادتها الأعلى ..تسريبات فايسبوكية وإيحاءات لبعض المقربين وتغذية تداول «خبر» محاولة تسميم رئيس الجمهورية فمكالمات مع رؤساء وملوك والتلويح دوما بوجود هذه المحاولة وحديث. وحديث..وحديث...
وفي النهاية يصدر بيان من النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس لتقول لنا بأن الاختبارات الفنية والعلمية التي قامت بها مصالح وزارة الداخلية بينت عدم احتواء هذا الطرد المشبوه على «أية مواد مشبوهة سامة أو مخدرة أو خطرة أو متفجرة».. نعم هكذا !!
ويضيف تقرير النيابة العمومية أن المصالح المعنية بوزارة الداخلية قد أعادت هذا الظرف الممزق إلى رئاسة الجمهورية وأن النيابة العمومية قد وجهت يوم أمس الخميس «مكتوبا رسميا لمصالح رئاسة الجمهورية لتمكين الوحدة الفنية المكلفة بالبحث في الظرف المشبوه،ولم ترد عليها الإجابة إلى حدّ الآن».
كيف يمكن أن يحصل هذا في تونس اليوم وكيف يمكن لأهم مؤسسة في الدولة أن تتعامل مصالحها مع موضوع بهذه الخطورة والحساسية بمثل هذه الطريقة التي لا نريد توصيفها حفظا للمقامات ولسمعة البلاد ؟!!
إلى ماذا يمكن أن نعزو كل هذا : الهواية ؟ غياب الجدية واستشعار جسامة المسؤولية ؟ قطيعة مع الواقع ؟
نحن لا نتهم أبدا أحدا بالكذب أو باختلاق مسالة لا وجود لها لمجرّد التوظيف السياسي فهذا ما لا نعتقد مطلقا حصوله،ولكننا نطلب ونطالب بالحد الأدنى من الجدية والمهنية والرصانة في التعامل مع كل مسألة بإمكانها تهديد الأمن القومي بل مع كل ما يتعلق بتسيير شؤون الدولة عامة حتى في صغائر الأمور ..فقد كان لزاما على رئاسة الجمهورية إما أن تصدر بيانا إعلاميا منذ فتح هذا الظرف وحصول تعكر في صحة السيدة نادية عكاشة مديرة الديوان الرئاسي وأن تتعهد النيابة العمومية بالتحقيق منذ الدقائق الأولى وأن ترسل الفرق المختصة إلى عين المكان بالتنسيق مع الحرس الرئاسي وبما يحفظ لهذا الموقع السيادي حرمته وفق القانون المنظم لمثل هذه الوضعيات ثم تصدر الرئاسة مباشرة بعد اطلاعها على نتائج التحاليل العلمية والأمنية بيانا يوضح ما حصل بالضبط أو أن تلتزم بالصمت منذ البداية وألا يتم تسريب أي شيء،لأحد وتنتظر نتائج التحقيق الأمنية ثم تعلم الرأي العام بما حصل .
هذا هو التعامل المهني والمسؤول أما أن تواصل مصالح الرئاسة حتى بعد اتصالها بالتقرير الأمني على الحديث أو التلويح بوجود محاولة «تسميم» فذلك هو عين العبث .
نحن نقول هذا وقلوبنا تقطر دما لان جدية ومسؤولية ومهنية مؤسسات الدولة هي عنواننا الأساسي في الداخل والخارج ومصداقية بلادنا عامة من مصداقية مؤسساتها ونخبها .
كل ما نرجوه هو أن تسارع المصالح المعنية في الرئاسة بتوضيح كل ما حصل للرأي العام وأن تقف على مواطن الخلل وان تحمل المسؤوليات لكل من أربك السير العادي والطبيعي للدولة.. كما نتمنى أن تتعامل بكل جدية مع التحقيق القضائي الذي بادرت بفتحه النيابة العمومية ..
المصلحة العليا للدولة تفرض في هذا الملف الشفافية المطلقة والصرامة الضرورية ..