المشهد يوم أمس يدفع الى شيء من الدهشة وبعض من الضحك: اللاءات المتكررة و«الصارمة» للمكلف بتشكيل الحكومة إلياس الفخفاخ تحطمت على جدار الرفض النهضوي يوما واحدا بعد الظهور الاعلامي اللافت لراشد الغنوشي في اذاعة «موزاييك» في الصباح وفي قناة «حنبعل» في المساء فتلاشى الخط الأول للدفاع الذي وضعه إلياس الفخفاخ: لا للتشاور مع قلب تونس في هذه المرحلة.. فحصل «تشاور» لم يرده وفي «ميدان» لم يختره.
لقد تأكد يوم أمس أن مالك اللعبة وصاحب الوقت هو راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس نواب الشعب وأنه قادر على فرض ارادته على المكلف بسرعة فائقة: ساعات قليلة بعد حضوره الاعلامي الثاني...
وسرعان ما أسفر هذا اللقاء الثلاثي عن دعوة رسمية من الياس الفخفاخ المكلف بتشكيل الحكومة إلى رئيس قلب تونس للقاء تشاوري هذا اليوم بدار الضيافة ولقد أكد بيان قلب تونس الصادر بعد هذه الدعوة أن الحزب قرر ايفاد وفد يترأسه رئيسه نبيل القروي لحضور هذا اللقاء التشاوري الرسمي الأول.
ما حصل يوم أمس هو تراجع الفخفاخ عن اعلانه الأول الواضح والصريح حول عدم تشريك حزب قلب تونس في مرحلة المشاورات، اذ لا يمكن توصيف ما حصل إلا بكونه تشاورا مفروضا من قبل رئيس حركة النهضة واجبارا لرئيس الحكومة المكلف، علىحدّ العبارة الرائجة، على التحادث المباشر مع رئيس قلب تونس تحت وصاية ورعاية «الشيخ» وهذا اعتراف واضح بأن الشرط النهضاوي قد قبل وتبقى بعد ذلك كيفية ادماج قلب تونس في حكومة الفخفاخ مسألة تقنية المشهدي فيها أهم بكثير من مضمونها الحقيقي.
وسيكون لقاء اليوم في دار الضيافة العنصر الأبرز في هذه المشهدية اذ يمثل تحولا جذريا في موقف الياس الفخفاخ وانصياعا كليا لرغبة راشد الغنوشي مهما حاول الياس الفخفاخ وفريقه التقليل من وقع هذا النكوص الكلي على ما تم اعلانه وتأكيده بكل قوة في الندوتين الصحفيتين للمكلف بتشكيل الحكومة.
ولكن النتيجة الأساسية لهذا اللقاء الثلاثي لا تكمن فقط في تبوئة الغنوشي كضابط ايقاع وحيد لحكومة الفخفاخ ولكن تفيدنا أيضا بأننا ابتعدنا كثيرا عن فرضية الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وأن حكومة الفخفاخ بهذا التعديل الجوهري على فلسفتها ومكوناتها ستمر لا محالة.
ما بقي الآن هو مسائل تقنية في نظر السياسة.
المسألة الأولى هي في كيفية التعامل مع معضلة «قلب تونس» اعلاميا وتسويقيا.. أي في ايجاد عناصر خطاب اتصالي تقول بأن الفخفاخ لم يتراجع عن نهجه الأول وأن لقاءه الثلاثي يدخل في خانة التفاوض مع حركة النهضة (نعم هكذا).
أما لقاؤه المباشر مع قلب تونس فليس بالضروري توسيعا للحزام السياسي بل هو فقط «توسيع» لدائرة النقاش الوطني حول الوضع العام وما ينتظر الحكومة المقبلة وأن الياس الفخفاخ سيتعامل في صورة حصوله على ثقة النواب بايجابية مع كل مكونات البرلمان وأن البلاد تحتاج إلى أوسع توافق ممكن لانجاز المحكمة الدستورية وبقية الهيئات الدستورية وأن الاصلاحات التي تنوي الحكومة القادمة القيام بها تهم كل القوى الوطنية بلا استثناء وأن كل هذا هو تحقيق أهداف الثورة في الحرية وبناء الدولة الديمقراطية وتحقيق كرامة كل المواطنات والمواطنين ولا أدل علي ذلك أيضا من دعوته لرئيسة الحزب الدستوري الحر، أي أننا لسنا أمام توسيع للحزام السياسي بل توسيع للحوار الوطني..
هذه هي عناصر التسويق الاعلامي التي سيروج لها في الأيام القادمة فريق الفخفاخ حتى لا يتعمق الاحساس بالتراجع الاستراتيجي الذي أقدم عليه المكلف بقبوله لهذا اللقاء الثلاثي وبتلك الظروف بالذات وخاصة بهذا اللقاء الرسمي مع وفد من قلب تونس بقيادة نبيل القروي وفي اليوم الموالي مباشرة.
إن الذي حصل أمس والذي سيتعمق هذا اليوم هو اتفاق بالأحرف الأولىكما يقال، بين إلياس الفخفاخ ونبيل القروي برعاية راشد الغنوشي مفاده أن الحكومة القادمة لن تستبعد قلب تونس ولن تعاديه ولكنها مضطرة اليوم بألا تقبل قياداته البارزة ضمن تشكيلتها الحكومية وأنه سيتم الاستعاضة عن هذا بتشريك «كفاءات مستقلة» يرشحها قلب تونس ويقحمها رأسا الياس الفخفاخ في «النصاب» المخول له ضمن خانة المستقلين.. وأن هذا الاتفاق المبدئي سيتدعم في الأشهر القادمة بمشاركة أقوى خاصة اذا ما انسحبت بعض الأحزاب في الطريق لأنها غير موافقة على بعض القرارات «الليبيرالية» لحكومة الفخفاخ.. وهكذا يتم حفظ ماء وجه الجميع فلا الفخفاخ تراجع ولا قلب تونس استبعد وكل ذلك تحت أنظار ورقابة وضمان ورعاية راشد الغنوشي الذي سيتولى بنفسه الدفاع عن التنفيذ الأمثل لهذا الاتفاق المبدئي بين المكلف السائر - ظاهريا على الأقل - على نهج الرئيس وبين منافس قيس سعيد في الدور الثاني للرئاسية.
وهكذا في أيام قليلة خرجنا من كسوة حكومة الرئيس إلى جبة حكومة رئيس.. البرلمان...
فعلا وكما قال الافرنجي: «إنّ الضحك لمن يكون آخر الضاحكين...».