من خلال العبارات والصور والإيحاءات المستعملة منحى شعبويا واضحا، أو لنقل افتتانا شعبويا زادته افتتانا حماسة المناسبة وهتافات الحاضرين ..
«الشعب يريد» هو أحد الشعارات الأساسية للثورة التونسية ولموجة الاحتجاجات العربية والدولية التي تلتها وهو استلهام مباشر من شاعر تونس العظيم أبي القاسم الشابي في قصيدته الخالدة «إرادة الحياة» عندما قال : إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر».
و«الشعب يريد» كان الشعار الأبرز لحملة قيس سعيد وكان دائما يردفه بـ«والشعب يعرف ماذا يريد» .
في سيدي بوزيد وفي الذكرى التاسعة لاندلاع الثورة ردد رئيس الدولة هذا الشعار مرارا عديدة ولكن هذه المرة أضاف إليه مروية جديدة مفادها قيام مؤامرات في غرف مظلمة تريد أن تحبط إرادة الرئيس المنتخب وإرادة الشعب وان هؤلاء المتآمرين معروفون عند «الشعب» بالاسم وسيأتيهم الرد «مزلزلا».
خطاب 17 ديسمبر شعبوي بالمعنى البسيط والبدائي للمفهوم فـ«الشعب» مطلق وهو كالجسم البسيط لا تشقه تناقضات ولا اختلافات ولا مصالح متعارضة.«الشعب» هوية فردية لا تعدد فيها يقابله الأعداء المتآمرون بطبعهم والذين يريدون إجهاض إرادته كما حاول «14 جانفي» إجهاض ثورة «17 ديسمبر».
في الديمقراطية الشعب مصدر السلطات وفلاسفة العقد الاجتماعي يؤمنون بـ«الإرادة العامة» ولكن باعتبارها محصلة مفارقة للإرادات الفردية وهي وحتى إن تعلوها لا تلغيها، بينما «الشعب» عند كل الشعبويين هو مصدر الحق والخير والفضيلة ولا يقابله منطقيا إلا الباطل والشر والرذيلة أي المتآمرون في ترجمة سياسية لهذا التضاد الأصلي..
ومن هم هؤلاء «المتآمرون» هم ببساطة ما يصطلح عليه بالنخب أي السياسيون والمثقفون ونشطاء المجتمع المدني والنقابيون ..اي كل ما يسمى بالاجسام الوسيطة وكل الهياكل التمثيلية، ولهذا لا يؤمن قيس سعيد بالديمقراطية التمثيلية وإن كان هو اليوم يمثل أعلى أنواع التمثيل الشعبي وبالتالي الشكل الأكثر ايغالا في الديمقراطية التمثيلية التي لا يؤمن بها ..
الخطير في كلام قيس سعيد لو أخذ على ظاهره هي إيهام «الشعب» بأن هنالك مؤامرات يومية تقوم بها النخب والمؤسسات والهياكل الوسطى في غرف «مظلمة» ضد إرادته ومصالحه ولامتصاص دمائه وإبقائه في حالة التهميش والفقر..وكأن كل من يخرج من دائرة التهميش والفقر قد خرج من «الشعب» والتحق بجحافل المتآمرين .
ثم ماهو الأفق السياسي الذي يقترحه الرئيس المنتخب على «الشعب» ؟ الإطاحة بالمتآمرين ؟ افتكاك السلطة من السلط المنتخبة وخاصة البرلمان؟
صحيح أن قيس سعيد يشدد دائما على احترام القانون والدستور بل يدعو الى الإنتقال من دولة القانون إلى مجتمع القانون.. ولكن كيف يمارس شعب فيه 12 مليون ساكن سلطته المباشرة ؟
باستفتاء يومي مستمر؟ وحتى لو كان الأمر كذلك فمن سينظم الاستفتاء ويراقبه ويحصي أوراقه؟ «الشعب» مباشرة أو عن طريق هياكل وممثلين ؟
وهب أننا بدأنا الانتخابات من «الأسفل» أي من العمادة فالمعتمدية فالولاية فالوطن فهل هذا الذي سيحقق للشعب التقدم العلمي والتكنولوجي ويرفع من مستوى التعليم والخدمات العمومية ويجعلنا نرتقي في سلم القيم إبداعا وإنتاجا وتسييرا ؟ !
في اعتقادنا قيس سعيد والمحيطون به لم يحسنوا قراءة نتائج انتخابات الدور الثاني للرئاسية فاعتقدوا أي حوالي مليوني وثمانمائة ألف ناخبة وناخب قد صوتوا لمشروعه الذي لم يكن واضحا عند جموع الناخبين.. قيس سعيد يبدو وكأنه لم يدرك أن %72 من الناخبين إنما منحوه ثقتهم لأنه كان في منافسة مع نبيل القروي أولا وثانيا لأنهم أرادوا اختيار رجل نظيف من خارج المنظومة الحزبية ليحسن ظروف عيشهم أولا وأساسا لا ليدخل في مغامرة دستورية لا يملك وسائلها أو في حملة تحريض وشيطنة ضد الجميع، ثم يعد «الشعب» بأنه سيأتي في المرة القادمة بالأموال والمشاريع.. فهل سيأتي بها من «الشعب» أم من الدوائر المتآمرة عليه..
خطر الافتتان الشعبوي – وهو ليس خاصا بتونس – يكمن في نفيه لكل الصعوبات الموضوعية والذهنية لواقع ما ونظرة سحرية للاقتصاد والرفاه وانه يكفي أن نحبط «المؤامرات» ليسبح «الشعب» غدا في بحبوحة من العيش.
قيس سعيد أمام فرصة تاريخية للبدء في تغيير أوضاع البلاد انطلاقا من رصيد الثقة الكبير الذي حظي به من قبل الناخبات والناخبين ،ولكن ذلك يفترض بداية معرفة دقيقة بمشاكل البلاد الاقتصادية والهيكلية وهو ما يبدو غائبا عنه كليا إلى حد اليوم ثم الإسهام باقتراح خطة عمل للبلاد لحشد كل طاقتها للبناء والعمل والجهد والاجتهاد من أجل خلق الشروط الفعلية للخروج من أزماتنا الهيكلية اليوم ثم تحقيق شروط إمكان غد أفضل لكل بناتنا وأبنائنا وهذا لن يكون إلا بالعمل والمزيد من العمل والتفاني في العمل والرفع من مستوى تعليمنا وتأطيرنا وبحثنا العلمي والارتقاء باقتصادنا في سلم القيم بدعم منافسيه وجودة منتوجاته وخدماته وهذا برنامج لعشريات كاملة كما فعلت الدول التي تجاوزت معيقات تقدمها في جيل أو جيلين كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها ..
هذه العقلانية المطلوبة والعمل الدؤوب والشاق والمضني المطلوب من الجميع يتناقضان مع الشعارات الجميلة في ظاهرها ولكنها تنم عن نظرة سحرية للسلطة وللتنمية وللتقدم..
وهي توهم بالقدرة على جني ثمرة دون عمل وكد واجتهاد..
ما نتمناه هو أن يكون هذا الافتتان الشعبوي سحابة عابرة وان يعمل الرئيس الجديد مع كل السلط في البلاد وكل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين على الانكباب الفعلي والعميق على مشاكل البلاد واقتراح حلم واقعي لكل بناتها وأبنائها من اجل غد أفضل..أما لو أصر على الاستمرار في هذا الاستسهال فالعاقبة ستكون وخيمة على الجميع .