منذ شهر بالضبط ارتفعت نسبة تفاؤل التونسيين إلى رقم قياسي (%61.5) بعد أن كانت سلبية للغاية على امتداد سنتين ونصف .. ولكن في هذه الدفعة الجديدة للباروميتر السياسي الذي تعده مؤسسة سيغما كونساي بالتعاون مع جريدة «المغرب» عاد التشاؤم بقوة إذ يعتبر حوالي ثلاثة أرباع التونسيين (%72.4) أن البلاد تسير في الطريق الخطإ وأربعة أخماسهم (%80.4) غير راضين على الطريقة التي تسير بها الأمور في بلادنا ..
في المقابل يبقى قيس سعيّد رئيس الجمهورية الشخصية التي تحظى بأكبر منسوب ثقة مرتفع ولكنه خسر عشر نقاط في شهر واحد(من %78.3 إلى %68) بينما لا يثق بالمرة ثلثا التونسيين (%64.5) في راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان كما أن حركة النهضة هي الحزب الأبعد عن قلوب التونسيين فنصفهم (%50.1) لهم حولها رأي سلبي جدا .
لقد أفرزت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفارطة موجة عارمة من التفاؤل لدى كل فئات المجتمع وسجلنا بالمناسبة أعلى منسوب لها منذ جانفي 2015 بـ%61.5 ولكن خلال شهر واحد فقط تراجعت هذه النسبة بشكل كبير لتبلغ معدلات نهاية 2017 بـ%23.4 فقط وصعدت نسبة التشاؤم تباعا إلى %72.4 وهي كذلك معدلات أواخر 2017.
كما ارتفعت نسبة غير الراضين على الطريقة التي تسير بها الأمور في البلاد إلى %80.4 بما يعني أن «فترة العسل» مع السلط الجديد لم تدم في النهاية الا شهرا واحدا فقط .
في سوسيولوجيا التشاؤم
عاد التشاؤم ليكون عاما لدى كل الفئات والجهات والأعمار والمستويات المعرفية ولدى الجنسين أيضا وحتى داخل العائلات السياسية الكبرى فهو ولئن بلغ %86.7 عند القاعدة الانتخابية للحزب الثاني قلب تونس فإن القاعدة الانتخابية النهضوية متشائمة وإن كان ذلك بنسبة اقل بكثير (%54.0).
في ما سوى ذلك، التشاؤم عام في كل الجهات ولكنه دون الثلاثين عموما في ولايات الجنوب الستة (قابس ومدنين وتطاوين وقفصة وتوزر وقبلي ) وصفاقس وولايات الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقيروان والقصرين) بينما نجده يتجاوز ثلاثة أرباع العينة في بقية ولايات الوسط والشمال.
لا وجود لفوارق جندرية تذكر في منسوب التشاؤم ،أما اجتماعيا فالطبقة المرفهة هي الأكثر تشاؤما بـ%79.8 بينما تكون الطبقة الوسطى العليا (المهن الحرة والإطارات العليا والجامعيين ..) هي الأقل تشاؤما بـ%69.7. .
الطريف أن الفوارق الأكبر في منسوب التشاؤم في الفئات العمرية نجده بين فئتين متقاربتين جدا في السن فهو الأرفع في فئة (31 - 35 سنة) بـ%80.5 بينما ينخفض عند فئة (36 - 40 سنة) إلى %64.7 فقط. والغريب أيضا انه لا توجد فوارق ذات معنى في معنويات التونسيين بالنظر إلى عامل المستوى المعرفي فكل المستويات العلمية في التشاؤم سواء .
ففي المحصلة نموذج المتشائم (ة) هو شاب(ة) ما بين 31 و35 سنة من سكان الشمال ومن الطبقة المرفهة بينما يكون الأقل تشاؤما الكهل (ة) الشاب (ة) ما بين 36 و40 سنة من سكان الوسط او الجنوب ومن الطبقات الوسطى العليا ..
ولكن ما الذي يفسر هذا الانقلاب الهائل في المشاعر في شهر واحد ؟ الجواب الأقرب هو أن التونسيين كانوا يعتقدون أن الانتخابات الأخيرة ستغير من أوضاعهم بسرعة فاكتشفوا خلال هذا الشهر المنقض (وهو الشهر الأول لرئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي) أن نفس الأعراض السياسوية مازالت قائمة وان هنالك فرقا واسعا – في تصورهم- ما بين أولويات المواطنين وأجندات السياسيين
درجة الرضا على أداء الرؤساء الثلاثة
عندما ننظر إلى درجة رضا التونسيين على أداء الرؤساء الثلاثة : رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان نكتشف أن قيس سعيّد رئيس الجمهورية ، مازال يحظى بنسبة مرتفعة من الرضا بـ%77.9 على عكس يوسف الشاهد وراشد الغنوسي ولكن هنالك %45.5 فقط من التونسيين الراضين تماما على أدائه فيما يكون الثلث (%32.5) راضيا إلى حدّ ما بما يفيد أن رصيد رئيس الدولة هام ولكنه محدود إلى حدّ ما وأن منسوب الرضا على أدائه سيتطور حتما في الأسابيع القادمة وفق تقدير النجاح في الانجاز من عدمه.
ينهي يوسف الشاهد سنوات حكمه الثلاثة بمنسوب رضا ضعيف بـ%35.3 من بينهم %10 فقط من الراضين تماما على أدائه وذلك لان فشل منظومة الحكم في تحقيق التنمية والشغل وتحسين القدرة الشرائية مرتبط به هو أساسا ولكن اللافت للنظر بأن الرئيس الثالث الجديد ،راشد الغنوشي ،رئيس مجلس النواب الشعب يبدأ خماسيته من مستوى رضا ضعيف للغاية دون ربع العينة (%22.4) من بينهم %7.4 فقط من الراضين مقابل %63.7 من غير الراضين على أدائه ولا يبدو أن هذه النسب ستتطور كثيرا في الاتجاه الايجابي لان عدم الرضا هنا مرتبط بوضوح بشخصية رئيس البرلمان وبما يمثله سياسيا أكثر منها بأدائه الفعلي في هذه المهمة الجديدة.
الثقة الكبرى في الشخصيات السياسية
عندما نأخذ مقياس الثقة الكبيرة في الشخصيات السياسية نجد نفس الترتيب لخماسي الطليعة في الشهر الفارط ،فقيس سعيّد مازال في الطليعة ب%68.0 وعلى بعد 30 نقطة من صاحب المرتبة الثانية الصافي سعيد (%37.8) ثم الثنائي سامية عبو (%25.0) ومحمد عبو (%18.1) فلطفي المرايحي بـ%15.6.
الجديد هنا ليس في الترتيب ولا في الأسماء ولكن في خسارة قيس سعيّد لعشر نقاط كاملة في ظرف شهر واحد وهي خسارة كبيرة خاصة وأننا في البدايات الأولى لعهدة الرئيس الجديد ،كما نلاحظ اي كلا من الصافي سعيد وسامية عبو ومحمد عبو قد ربحوا حوالي ثلاثة نقاط فيما حافظ لطفي المرايحي على نفس الرصيد .
كما لابد من الانتباه الى أن هذا الخماسي ملاحق بثلاثي من صنف خاص وهم سيف الدين مخلوف بـ%14.4 وعبير موسي بـ%12.9 فنبيل القروي بـ%12.3 وهذه شخصيات استقطابية بشكل كبير بما يدل أن منسوب الثقة الكبيرة فيها صلب وانه نابع من قناعات مختلفة بل ومتناقضة لدى فئات من التونسيين وهذا قد يؤهل هذه الشخصيات لكي تزن بقوة على مجريات هذه الخماسية أو على الأقل في بداياتها .
ثم عندما نسال التونسيين عن الشخصيات التي يرغبون في وجودها في مواقع متقدمة في المستقبل نجد تقريبا نفس الترتيب وبنسب ارفع بقليل من منسوب الثقة الكبيرة من 4 إلى 7 نقاط ،كما نلاحظ أن الوحيد الذي يسجل تقدما على مستوى ترتيب المستقبل هو يوسف الشاهد التاسع في منسوب الثقة والسادس في مؤشر المستقبل بما يفيد أن صاحب القصبة الحالي ورغم هزيمته الانتخابية والحكم السلبي على محصلته إلا انه بإمكانه أن يلعب دورا ما لو تمكن من الاستفادة من أخطاء خصومه أولا وجدد نفسه وخطابه ثانيا ..
كما نجد أيضا رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي في المرتبة الحادية عشرة في كلا المؤشرين،ولو تمكن من تشكيل حكومة تنال ثقة مجلس نواب الشعب فالأكيد أن عملية صعوده ستستمر هي الأخرى .
ثلثا التونسيين لا يثقون مطلقا في الغنوشي
لو قرأنا مؤشر الثقة الكبيرة في الشخصيات السياسية بنقيضه،أي بانعدام كلي للثقة في الشخصيات العامة لوجدنا ،مرة أخرى،أن متصدر الترتيب هو راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة والرئيس الجديد للبرلمان بنسبة مرتفعة للغاية : %64.5
في هذا الترتيب نجد نفس خماسي الشهر الفارط مع «صعود» علي العريض إلى المرتبة الثانية بـ%57.5 و»نزول» حمة الهمامي إلى المرتبة الثالثة بـ%57.1 فعبير موسي بـ%57.0 ثم نبيل القروي بـ%55.4.
يعكس ترتيب هذا الخماسي موقف عموم التونسيين من بعض القيادات السياسية، إذ لا نجد هنا إلا الشخصيات ذات «القدرة» الاستقطابية المرتفعة : الغنوشي والعريض من النهضة وحمة الهمامي من الجبهة وعبير موسي من الدستوري الحر ونبيل القروي من قلب تونس .. وهذا الترتيب يقول شيئا وحيدا : كل هذه الشخصيات السياسية فاقدة لأية قدرة تجمعية بغض النظر عن حجم أنصارها وناخبيها .
نفس هذا الخماسي وبنفس الترتيب وبنسب مئوية ارفع بقليل نجده في مؤشر الشخصيات
التي لا يرغب التونسيون تماما في لعبهم لادوار سياسية في المستقبل .
رأي التونسيين في الأحزاب السياسية :
الكرامة والتيار وحركة الشعب في الصدارة والنهضة هي الأبعد عن قلوب التونسيين
عندما ننتقل من الشخصيات السياسية إلى الأحزاب السياسية نلاحظ في البداية الانخفاض الكبير في نسبة الثقة المرتفعة إذ لا تحوز الأحزاب الأولى في هذا المؤشر إلا على %15 من الثقة الكبيرة للتونسيين وهي ائتلاف الكرامة(%15.1) والتيار الديمقراطي وحركة الشعب بـ%15.0 لكل منهما ،أما حركة النهضة فهي في المرتبة السابعة بـ%8.5 فقط وهي تكاد تتساوى مع حزب الرحمة بـ%8.3 ونداء تونس بـ%8.0 بينما يتقدم عليها بوضوح كل من الدستوري الحر بـ%13.8 وتحيا تونس بـ%13.0 وقلب تونس بـ%11.1.
والدرس الأول في هذا الترتيب أن حركة النهضة رغم هياكلها ومناضليها ونصف قرن من النشاط وثماني سنوات من الحكم – بصيغ مختلفة – وتقدمها في الانتخابات التشريعية الاخيرة هي بصدد خسارة معركة الوجاهة والحضور حتى داخل الحركة الإسلامية بشكل عام اذ يحظى ائتلاف الكرامة هذا التجمع الذي تشكل على يمين النهضة ويضم وجوها معروفة بتشددها الديني هو الآن يبزها في معقلها الأساسي رغم حداثة التكوين وضعف التنظيم،وهذا يعني أن النهضة كتنظيم وكقوة تأثير في تراجع مستمر وأن بقاءها كقوة وازنة لن يكون بسيرها نحو الاعتدال والوسطية بل بانجذابها الواضح نحو اليمين المتطرف.
كما أننا نلاحظ أن أحزابا كالتيار الديمقراطي وحركة الشعب والدستوري الحر وتحيا تونس وقلب تونس بدرجة اقل لها إمكانيات نمو وتوسع تفوق وزنها الانتخابي اليوم وأن هذه الخماسية ستكون محددة لمصيرها كلها : إما الارتقاء إلى مستويات اكبر ولعب الأدوار الأولى في سياسة البلاد أو التراجع وربما التهميش ..
وكما الشأن بالنسبة للشخصيات هو كذلك بالنسبة للأحزاب إذ نجد أن رأي التونسي سلبي جدا في النهضة أولا (%50.1) ونداء تونس ثانيا (%44.5) فقلب تونس (%39.3) والدستوري الحر (%38.2)ويلي هذا الرباعي كل من تحيا تونس وائتلاف الكرامة ومشروع تونس وحزب الرحمة بحوالي %27.5 لكل منها بينما نجد في «ذيل» القائمة التيار الديمقراطي بـ%17.7 وحركة الشعب بـ%16.6.
هنالك إذن «سقف بلّوري» للنهضة يقدر بنصف التونسيين الذين لا يثقون فيها مطلقا بينما %19 لا يثقون فيها إلى حد ما .وهذا دليل آخر على فشل الحركة الإسلامية في «التطبيع» مع مجتمعها وفي أن تصبح حزبا سياسيا كبقية الأحزاب ..
ونجد صعوبات «التطبيع» هذه كذلك عند كل من النداء وقلب تونس والدستوري الحر بنسبة رفض مرتفعة بينما لا يرفض مطلقا حركة الشعب والتيار الديمقراطي إلا تونسي على ستة.
هذا المشهد السياسي والنفسي العام في بداية هذه الخماسية هو مشهد سيكون متقلبا أكثر بكثير مما نعتقد.
يتبع
في عدد قادم :
انتظارات التونسيين وتقييمهم للمؤسسات والهياكل والأوضاع العامة في البلاد
الجذاذة التقنية للدراسة
العينة : عينة ممثلة للسكان في الوسط الحضري والريفي مكونة من 1037 تونسي تتراوح أعمارهم بين 18 سنة وأكثر.
تم تصميم العينة وفق طريقة الحصص (Quotas) حسب الفئة العمرية ، الولاية ، الوسط الحضري أو الريفي.
طريقة جمع البيانات : بالهاتــــــف
CATI (Computer Assisted Telephone Interviewing ,Call-Center)
نسبة الخطإ القصوى %3.1
تاريخ الدراسة : 9 ديسمبر 2019 إلى 13 ديسمبر 2019