التّكفير و التّشكيك و التّخوين والتّشويه.
لقد رأينا بعد الثورة التحريض التكفيري في أشكاله الايديولوجيّة الدينيّة الأكثر انغلاقًا يقسّم البلاد و يزرع الفتنة و الخراب و يؤدّي إلى اغتيال المناضلين السّياسيّين. ورأينا هذا التّحريض وهو يتلاعب بخبث بمفاهيم الحق في الرأي و التّعبير في أشكالها الأكثر شعبويّة لتبرير العنف و الإرهاب والتكفير. فأُرسل الشّباب المؤدلج إلى جبهات القتل و الدّمار ودخلت تونس في جحيم الإرهاب الأسود.
أرواح شابة متألمة و هشّة و تائقة إلى جنّات المطلق اختطفتها ثقافة الموت التّكفيريّة و حوّلتها إلى جحافل انتحاريّين يقتلون أنفسهم و الآخر المختلف.
مصنع الموت و العدم هذا يبدأ من كلمة أو صورة أو فكرة تناقلتها وسائل الإتصال الحديثة بكلّ حريّة لتذبح الحريّة ومعاني المدنيّة إنها مفارقة عجيبة من مفارقات عصرنا العديدة.
أمّا اليوم وبعد أن عشّشت ثقافة التكفير الإيديولوجي الدّيني الذي يستعمل الدّين مطيّة لتحقيق مصالح سلطويّة دنيويّة، فقد مررنا إلى مرحلة جديدة وهي محاولة تعميم التكفير.
لم تعد سلطة القوى الدينيّة المتطرّفة تحتكر لوحدها سلاح التكفير في مواجهة الرّأي الحرّ والتّفكير النّقدي. فكلّما طرحت قضيّة ثقافيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة مؤثّرة في مسار الانتقال الصّعب الذي تعيشه البلاد، تنهض قوى السّلطات الايديولوجيّة و الماليّة والسياسيّة لتواجه بعنف كل من يحاول طرح أسئلة على محاولتها احتكار سلطة المعاني. هجوم شرس وعنيف يحاصر من يشكّك في طرق طرح القضايا بالنّقد السّلميّ.
تكفير للرأي المختلف و تشويه لسمعة الرّجال والنّساء واحتقار و ثلب و أدوات للعنف الرّمزي والمادي أحيانًا.
لقد رأينا في قضايا «بنما» و تحفيظ القرآن والمصالحة و محاربة الفساد توزيعًا جديدًا للعنف الرّمزي تجاوز النّطق التقليدي بالكلمة المرعبة «أنت كافر» إلى أساليب جديدة/قديمة من التحقير والتّشويه والإرباك والضغط النّفسي في كلّ الإتّجاهات تجرّد الآخر من حقّه في التّفكير والتعبير عن الرأي الحرّ وترمي به في زاوية «عدوّ» المجتمع و الرّأي السّليم و التّفكير القويم.
هذا التكفير «الدّنيوي» يبرّر تهميش الآخر ويغلق مساحات الديمقراطيّة التي تقوم على المساواة في المواطنة وعلى الحق في المشاركة في صنع القرار.
إنّ ما نعيشه اليوم هو حرب حقيقيّة على فضاءات الكلام والتّعبير والتّفكير حرب هدفها المعلن هو حماية الدّين والأخلاق والمصالح الفضلى للبلاد من كلّ ماهو هامشيّ ومزعج ولكن هدفها العميق والحقيقي هو استلاب النّاس ومنعهم من المشاركة في تغيير حياتهم وحياة الآخرين.
لقد التبست المعاني وتشوّهت في هذا الجو من كثرة الكلام وأصبحت الحريّة مطيّة لمحاولة ضرب الحقّ في الحريّة. التباس وصل حدًّا من السخرية جعل أحد كبار مثقّفينا يصرّح في أحد البرامج التلفزيّة التّي تحقّق نسب مشاهدة واسعة في ما معناه أنّ التّكفير هو دفاع عن الرّأي، أمّا تنفيذ حكم الإعدام في الكافر فهو من اختصاص القانون وحده.
هكذا يُبتدع معنى غريب وهو «حريّة التّكفير».
إن مواجهة حريّة التفكير بحملات التشويه والتشكيك وإقصاء الآخر المختلف لن تجدي نفعًا، فهناك نساء ورجال لن يقبلوا بالعودة إلى زمن الإستبداد الذّي حوّل البلاد إلى مصنع لغات خشبيّة بذيئة و مقبرة للإبداع.
ان زمن الحريّة يقوم على التعدّد و الإختلاف الذي تجري وقائعه في فضاءات تضمن للجميع الحق في الكرامة الإنسانيّة و تدور اختلافاته و صراعاته في إطار سلمي بعيدًا عن سلطة القوّة العمياء.
إنها فضاءات المواطنة التي تضمن الحريّة ولكن تنظّمها بقيود المسؤوليّة: مسؤوليّة عدم التكفير والتّخوين والدعوة للعنف والعنصريّة والكراهية والإقصاء.
حريّة التفكير لاتواجه بأسلحة التّكفير بل تواجه بفتح مجالات أكبر وأوسع للكرامة والحريّة.