والأجانب حول هذه القضايا والعديد من المسؤولين الحكوميين والمؤسسات الدولية وكذلك ناشطي المجتمع المدني. وفي الحقيقة فإن الحوار والنقاش حول هذا المشروع الجديد للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وبلادنا قد بدأ منذ سنوات إلا أن النقاشات اليوم تكتسي أهمية خاصة باعتبار تزامنها مع انطلاق الجولة الأولى من المفاوضات بين بلادنا والاتحاد الأوروبي من 18 إلى 21 أفريل 2016.
وقد أضفت الحرية والجو الديمقراطي الذي تعرفه بلادنا منذ الثورة على هذه المفاوضات رونقا خاصا فمكنت الآراء المختلفة من التعبير عن نفسها بين مناهض لهذه الاتفاقيات معتبرا إياها عودة للعلاقات غير المتكافئة بين الشريكين وبل وحتى رجوع للماضي الاستعماري. ومساند لهذه الاتفاقيات للبعض الآخر والذي يعتبرها قد ساهمت مساهمة فعالة في دفع التعاون بين بلادنا والاتحاد الأوروبي وفتحت مجالات هامة لمؤسساتنا الاقتصادية وصادراتنا كما دفعت الاستثمار الأوروبي والشركات الأوروبية إلى مزيد التواجد في بلادنا.
تعيش بلادنا والحوار الاقتصادي بصفة عامة هذه الأيام على وقع المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ويعرف هذا الخطاب الكثير من المساهمات تتميز في البعض منها بالكثير من الحدة وشيء من التشنج وفي رأيي فإن هذا الحوار والخطاب العام المصاحب لهذه المفاوضات مع شريكنا الأوروبي لن يكون عقلانيا مائة بالمائة بل سيصاحبه الكثير من التأثر والحساسية وبعض الانفعال والذي يجب أن يتفهمه مفاوضونا وأصدقاؤنا الأوروبيون ولا يعتبرونه ضربا أو تراجعا عن العلاقات التاريخية التي تجمعنا بهم.
وتعود هذه الخصوصية في رأيي إلى أسباب أساسية السبب الأول في رأيي هو وزن العلاقات التاريخية بين الشريك الأوروبي وبلادنا والتي يلتقي فيها التاريخي بالسياسي والماضي الاستعماري والنضال الوطني مما يجعل للمسكوت عنه وللعاطفة حضور كبير في هذه العلاقة على غير العلاقة مع أي شريك آخر والذي ليس له هذا الجانب التاريخي المشترك معنا والذي لم يكن مضيئا في بعض جوانبه وهذه العلاقة التاريخية الطويلة والمعقدة في بعض جوانبها سيكون لها وزن كبير في المفاوضات وقد لا تعطبها في بعض الأحيان الهدوء والاتزان الضروري.
السبب الثاني الذي يعطي لهذه المفاوضات أهمية خاصة هو قيمة الشريك الأوروبي في علاقاتنا الاقتصادية الدولية فالاتحاد الأوروبي مثّل سنة 2014 قرابة 75 % من صادراتنا و53 % من جملة وارداتنا وإلى جانب المبادلات التجارية فإن العلاقات مع الشريك الأوروبي تشمل كذلك الاستثمار حيث تشكل المؤسسات الأوروبية أهم المستثمرين الأجانب في بلانا وهذا الارتباط بين التجارة والاستثمار يجعل الحركية الاقتصادية والنمو شديدي الارتباط بالديناميكية الاقتصادية في بلدان الاتحاد الأوروبي.
المسألة الثالثة والتي تؤكد خصوصية العلاقة بين بلادنا والشريك الأوروبي تهم قراءة وتحليل فئات واسعة من النخب في بلادنا للدعم الأوروبي لبلادنا في فترة ما بعد الثورة ولئن يقر الكثيرون أن الدعم الأوروبي لبلادنا وخاصة المالي والاقتصادي منه قد عرف تطورا كبيرا فإنه بقي محدودا إذا ما قارناه بالدعم الذي تلقته بلدان أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين وبداية انتقالها الديمقراطي سنة 1984. كما يبقى كذلك هذا الدعم ضعيفا إذا ما قارناه بالدعم الذي تحصلت عليه البلدان الأوروبية التي تواجه أزمة المديونية كاليونان مثلا. وإن كان غياب الديمقراطية وانعدام الحريات في السابق من الأسباب التي جعلت هذا الدعم المالي محدودا فإن العديد من المسؤولين والناشطين في بلادنا يتساءلون عن هذا الدعم المحدود بالرغم من تطوره في ظروف التحول الديمقراطي وفي هذا المجال الاقتصادي فإن
الموقف الأوروبي القاضي باشتراط الدعم بالاتفاق مع المؤسسات الدولية وبصفة خاصة مع صندوق النقد يثير كثيرا من التساؤل فالكثير يرى أنه لا بد للاتحاد الأوروبي من ربط علاقة مستقلة ومباشرة مع الجانب التونسي كما تفعله العديد من المؤسسات المالية العالمية.
الجانب الرابع والذي له وزنه في العلاقة مع شريكنا الأوروبي يخص حرية حركة المواطنين بما فيه مآسي مراكب الموت للهجرة غير الشرعية إلى صعوبة الحصول على التأشيرة لدخول الاتحاد الأوروبي إن لم نقل استحالتها بالنسبة لبعض البلدان الأوروبية حتى لكبار المسؤولين في الدولة أو لرجال الأعمال والذين تدخل تنقلاتهم إلى أوروبا في إطار هذا التعاون مع البلدان الأوروبية ولا يسعى أي منهم إلى البقاء في البلدان الأوروبية.
الجانب الخامس والذي سيعقد هذه المفاوضات يهم في رأيي التخوف من انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية وهذا التخوف ليس مرتبطا فقط بهذا الاتفاق بل هو وليد كل اتفاقات التجارة الحرة لعل أكبر دليل على ذلك هو الصعوبات التي يعرفها اتفاق التجارة الحرة بين أوروبا والولايات المتحدة بالرغم من الفترة التنافسية الكبرى لهذين الجهتين.
في رأيي ستخيم هذه العوامل بظلالها على عملية التفاوض وتجعل منها مسارا طويلا ومعقدا لكن لا بد من التأكيد على الجانب الاستراتيجي لهذه المفاوضات وأهمية الجانب الأوروبي وضرورة بناء علاقات تعاون تساهم وتنخرط في مشروع التحول الاقتصادي في بلادنا لدعم وتركيز التغيير الديمقراطي وفي تقديرنا فإن بناء علاقات جديدة مع شريكنا الأوروبي في إطار الشراكة الشاملة والمعمقة يجب أن تنخرط في إطار مشروع بناء تنموي جديد هدفه الصعود بنسيجنا الاقتصادي والصناعي إلى درجات أرقى وخلق نمو متوازن ويسعى للعدالة الاجتماعية والاندماج.
وفي هذا الإطار فإنه لا بد من التخلي عن فكرتين خاطئتين الأولى نجدها عند بعض ناشطي المجتمع المدني وحتى بعض المسؤولين وهي تدعو إلى تأجيل هذه المفاوضات بحجة أن بلادنا ليست مستعدة وإن كنا نتفهم هذه التخوفات ونقدر الظرف الاستثنائي الذي تمر به بلادنا منذ الثورة فإننا نعتقد أنه لا بد لنا أن ننطلق في هذه المفاوضات وبكل ثقة في قدرة مفاوضينا والذين لهم من التجربة ما يجعلهم قادرين على حماية مصالحنا والدفاع عنها وجعل كل الاتفاقيات للتعاون تساهم في دفع النمو في بلادنا وهنا كذلك لا بد أن نشير إلى أن مسألة التفاوض هي طويلة النفس وستتطلب وقتا طويلا ولا شك في أن هذا الوقت سيسمح لنا بالقيام بالإعداد اللازم والمشاورات الضرورية لدعم مواقفنا التفاوضية.
الفكرة الثانية والمخطئة في رأيي هي تحميل الجانب الأوروبي كل صعوباتنا الاقتصادية وإن لا تعبر هذه الفكرة عن نفسها بطريقة مباشرة فإن التأكيد مثلا على أن اتفاق الشراكة الذي تم إمضاؤه سنة 1995 لم يساهم في دفع الاستثمار أو الصادرات في بلادنا هو اعتراف ضمني أننا نحمّل هذه الاتفاقيات أكثر ما تتحمله.
هذه الاتفاقيات على أهميتها ليست المسؤولة عن قصور التنمية في بلادنا وتبقى سياساتنا واختياراتنا هي المسؤولة عن نجاح أو تراجع التنمية.
لقد انطلقت بلادنا في الجولة الأولى للمفاوضات وأود الإشارة هنا إلى بعض المبادئ والتي دخل البعض منها حيز التطبيق لنوفر ظروف النجاح لمفاوضينا ونجعل من هذه الاتفاقيات حجرة في البناء الاقتصادي لبلادنا وعلى طريق التحول الاقتصادي.
المبدأ الأول هو ضرورة توفر النظرة الشاملة والبرنامج الاستراتيجي والمستقبلي لبلادنا للسنوات القادمة وهذه النظرة أساسية إذ أردنا أن نضع كل اتفاقات التعاون التجاري والاقتصادي في خدمة توجهاتنا الاقتصادية والتنموية المستقبلية. المبدأ الثاني هو شحذ الدعم السياسي الداخلي لدعم عملية التفاوض وهذا يتطلب وضع الأطر والمؤسسات التي تراقب عمل المفاوضين كاللجان البرلمانية ولكن في نفس الوقت هامش حركة للمفاوضين والابتعاد عن كل ما يمكن أن يقيد حركتهم. المبدأ الثالث يهم ضرورة وأهمية مشاركة المجتمع المدني في هذه المفاوضات وبالرغم في بعض الأحيان من حدة تصريحات أو تقييم هذه المنظمات للمسار التفاوضي فلا بد من أخذ آرائها بعين الاعتبار باعتبارها تعبّر عن احترازات ومخاوف قطاعات هامة من المجتمع تجاه هذه المفاوضات المبدأ الرابع يهم الإعداد لهذه المفاوضات وإن تم تشكيل اللجان التي تعمل على الإعداد المادي والتقني لهذه المفاوضات فإني أؤكد على ضرورة الإسراع في إنجاز الدراسات الضرورية للانعكاسات المستقبلية لهذه الاتفاقيات فهذه الدراسات هي الوحيدة القادرة على توجيه مفاوضينا في الدفاع عن مصالحنا وفي هذا الإطار لا بد أن نشير إلى أن بلادنا تزخر بالفنيين القادرين على إعداد هذه الدراسات والبعض منهم موجودون في كبرى المؤسسات على أن لا يتجاوز هذا التاريخ شهر سبتمبر القادم ثم القيام بالملتقيات الضرورية لدراسة وقراءة نتائج هذه الدراسات وتسليح مفاوضينا بالمعطيات الضرورية للدفاع عن مصالحنا الدفاعية والهجومية في هذه المفاوضات.
المبدأ الخامس يخص ضرورة الأخذ بعين الاعتبار وضعية عدم التكافؤ أو asymétrie بين بلادنا والاتحاد الأوروبي. وهذا يتطلب اخذ إجراءات حمائية لدعم وتطوير القدرة التنافسية لمؤسساتنا وهذا المبدأ كان موجودا في اتفاقيات 1995 وكان وراء وضع برامج mise à niveau لدعم مؤسساتنا الصناعية وهنا لا بد من تقييم هذا البرنامج لوضع مبادئ جديدة لحماية مؤسساتنا.
المبدأ السادس والأخير الذي يجب أن نؤكد عليه هو ضرورة التنسيق وتبادل المعلومات والتجارب مع أشقائنا الذين انطلقوا في عملية التفاوض مع الاتحاد الأوروبي لقد دافعت شخصيا وإلى اليوم على مبدإ المفاوضات المشتركة بين بلدان جنوب المتوسط مع الاتحاد الأوروبي التي من شأنها أن تحسّن قليلا في موازين القوى بين بلداننا والتنين الكبير الذي يمثله الاتحاد الأوروبي إذا قارناه ببلداننا.
إلا أن هذا المبدأ لم يحظ بالموافقة وانطلق كل قطر في مفاوضات أحادية الجانب مع الاتحاد الأوروبي وفي غياب هذا المبدأ في المفاوضات المشتركة فإني أؤكد على الأقل على ضرورة التنسيق وتبادل التجارب مع البلدان الأخرى. وفي هذا الإطار أقترح تنظيم لقاءت بين مفاوضينا وأشقائنا المغاربة الذين انطلقوا منذ سنة ونصف في هذه المفاوضات لكنهم وصلوا اليوم إلى مأزق وهذه الصعوبات التي وصلها المسار التفاوضي بين أشقائنا المغاربة والاتحاد الأوروبي يمكنها أن تنير الطريق لمفاوضينا.
إن انطلاق المفاوضات بين بلادنا والاتحاد الأوروبي تفتح فترة من التحديات من أجل وضع هذه الاتفاقيات وعلاقات التعاون مع شريكنا الرئيسي في خدمة أهدافنا التنموية وهذا المسار يتطلب منا توضيح رؤانا المستقبلية وشحن الدعم وحسن الإعداد ومزيد التنسيق مع أشقائنا للخروج بنتائج إيجابية يمكن أن تساهم في دفع التحول الاقتصادي في بلادنا وبناء نمط تنموي عادل ويساهم في الاندماج الاجتماعي والتنمية المستديمة لبلادنا.
تونس في 30 أفريل 2016