دون توقعات قانون المالية قد يدفع ، في أسوإ الأحوال ، إلى المحافظة على الأسعار الحالية خاصة أن الفارق بين فرضية قانون المالية ( 75 دولارا للبرميل )وواقع الأسواق العالمية (معدل سعر البرميل في الثلاثي الأول لهذه السنة هو دون 64 دولارا) والذي يتجاوز 11 دولارا يجعلنا ، إلى حد الآن ، في مأمن من تفاقم حجم دعم المحروقات في قانون المالية لسنة 2019..
ما الذي دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار تدرك سلفا أنه غير شعبي ؟
يقوم التفسير الرسمي على سببين : الأول هو أن قانون المالية يفترض حصول زيادة كل ثلاثة أشهر والثاني أن سعر البرميل ينبغي أن يعدل وفق قيمته بالدينار التونسي أي أخذ انزلاق الدينار بعين الاعتبار كذلك ..
ولكن المعطيات الموضوعية تبين أنه لا وجاهة لهذا التفسير باعتبار أن قانون المالية تضمن التعديل الآلي منذ سنة 2016 أي احتمال الزيادة والتخفيض وفق معدل السعر في السوق العالمية ، فلم نفعل إلى حد الآن إلا الترفيع فقط وثانيا سعر الصرف منذ بداية هذه السنة مستقر إلى حد بعيد..
التفسير الوحيد المقنع هو مواصلة تخفيض حجم دعم المحروقات بغض النظر عن سعر النفط في الأسواق العالمية وتبيان أن البلاد مازالت متعهدة - ولو جزئيا – بحزمة الإصلاحات التي تعهدت بها أمام صندوق النقد الدولي رغم إقدامها على زيادة في أجور الوظيفة العمومية لم يكن مرحبا بها كثيرا عند الإدارة العامة للصندوق ،والعنصر الثاني الجزئي هو حشد بعض
الأموال للميزانية قصد تغطية نسبية لإنفاق عمومي غير مبرمج ونخص بالذكر الزيادة في أجور الوظيفة العمومية (حوالي 700 مليون دينار ) وخطة العمل لإنقاذ الصحة العمومية (حوالي 500 مليون دينار )..
أي في المحصلة عندما لم تتمكن الحكومة من الحدّ من النفقات العامة لجأت إلى الزيادة المفتعلة في المداخيل إما عبر الترفيع المباشر في الجباية أو غير المباشر كالترفيعات المتتالية في أسعار المحروقات ويكفي أن نعلم أن سعر البنزين الخالي من الرصاص ارتفع من 1800 مليم في بداية افريل 2018 إلى 2065 اليوم أي بزيادة تقدر بحوالي %15 !
وغني عن القول بأن زيادة بمثل هذا الحجم تسهم مباشرة في إبقاء الضغوط التضخمية مرتفعة كما أنها تمس من المقدرة الشرائية للأفراد ومن القدرة التنافسية للمؤسسات .. وسينتج عن ذلك ارتفاع واضح في نسبة التضخم فترفيع إضافي في نسبة الفائدة المديرية فإضعاف أكبر للقدرات المتبقية لمؤسساتنا الاقتصادية ..
أي أن نمط حوكمة المالية العمومية الذي اعتمدته كل الحكومات ما بعد الثورة هو الذي يشكو من خلل هيكلي ومفاده عدم القدرة على التحكم في هذا الإنفاق العمومي وخاصة في نفقات التصرف .
المفارقة الكبرى هي أن نمو هذه النفقات ينمو بوتيرة أسرع من النمو الفعلي للاقتصاد ولعل المنطق السليم كان يقتضي منا أن نبدأ فعليا في التحكم في هذا الإنفاق المنفلت وما ينجم عنه من تضخم ومن تعسير شروط تمويل الاقتصاد ومن تراجع لقيمة الدينار فلجوء للمديونية ..
هذه الحلقة المفرغة هي التي لم نتمكن من كسرها لأننا لم نجد ، إلى حد الآن ، حكومة قادرة على فرض فعلي للتحكم في النفقات مقابل قدرة على إنعاش الاقتصاد ..
بلغة أوضح لا يمكن لبلادنا أن تزيد في إنفاقها العمومي بهذه الصفة ..زيادة في الأجور ومخطط لإنقاذ الصحة العمومية ثم برنامج إضافي للمدرسة العمومية .. فنحن بهذه الشاكلة بصدد توزيع ثروة لم نخلقها أي بصدد توزيع الاقتراض فقط لا غير ..
ولكن بالطبع ما ينقصنا اليوم هو إعلان سياسة واضحة ومرقمة للضغط على الإنفاق العمومي دون المساس من حيوية الآلة الإنتاجية والخدمات الأساسية وثانيا الموافقة الشعبية على تطبيق هذه السياسة وهذا ما لا تملكه الحكومة الحالية، وهذا ما يجعلها غير قادرة على قيادة إصلاحات عميقة حتى لو أرادت ذلك ..
يمكن أن نقول كل شيء ، فالأرقام غير قابلة للتمدد كما نريد ولا يمكن لبلادنا في الخماسية القادمة أن توزع زيادات مستمرة في الأجور وفي النهوض بالقطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والنقل دون خلق ثروة مناسبة اي دون نسب نمو تتجاوز %5 وعلى امتداد سنوات طويلة والبداية لا يمكن ان تكون إلا بالتحكم في الإنفاق حتى لا يغرق المركب بما حمل ..
هنالك مقايضة تاريخية لابد منها للحد على الأقصى من الثمن الاجتماعي الكارثي لانفلات الإنفاق العمومي وهو كبح جماح نفقات التصرف مع إصلاح في العمق للوظيفة العمومية والتقليص من الدعم وإيجاد موارد إضافية للدولة لإنفاقها في التنمية عبر خوصصة كلية او جزئية لبعض المنشات العمومية ، وكل ذلك حتى نعطي للدولة إمكانيات دفع أسرع للنمو وحتى ترفع البلاد من إنتاجية كل عواملها ،إنتاجية العمل ورأس المال والابتكار ، والإقدام على تنمية أسرع للمناطق الداخلية والهدف من كل ذلك هو ان يصبح الترفيع في القدرة الشرائية لعموم المواطنين ناجما فقط عن ثروة قد خلقت وعن إنتاجية قد تحسّنت ..
ولكن هل سيجد برنامج كهذا من يدافع عنه ؟ وهل يستجيب له الناخبون ؟
ذلك هو السؤال.