وجدت المركزية النقابية ببطحاء محمد علي نفسها مجبرة على تعليق حربها مع الشاهد في تراجع تكتيكي لتجنب خسائر اصطفاف «محرج» لها، قبل ان يتطور الوضع الى سعي البعض لاستعادة العلاقات نسقها الأول في إطار بحث عن مخارج مع وضع سيناريوهات للتهدئة أوالتصعيد.
«يدنا مفتوحة للحوار» هذا الرسالة التي وجهها رئيس الحكومة يوسف الشاهد للشركاء الاجتماعيين وأساسا اتحاد الشغل، في كلمته التي اعلن فيها الحرب على المدير التنفيذي لنداء تونس، تلقفتها بطحاء محمد علي وبنت عليها مقاربة جديدة.
هذه المقاربة لا تزال تختمر في اذهان عدد من النقابيين قد تطرح لاحقا على مؤسسات الاتحاد لبلورتها رسميا، لكن اللافت فيها حجم المراجعة التي شهدتها إن تعلق الامر بموقف اتحاد الشغل من حكومة الشاهد واساسا رئيسها.
فالاتحاد الذي لا يخفى على الفاعلين به وقوع تطورات جمة في المشهد السياسي منذ اخر اجتماع لداعمي وثيقة قرطاج 2، لكن هذه التطورات لم تدرس بعد في اطار مؤسسات الاتحاد ولم يصدر موقفا رسميا، وذلك بسبب سفر جزء من اعضاء مكتبه التنفيذي خلال الأيام الفارطة.
السفر لم يمنع النقابيين من اعادة قراءة المشهد برمته، خاصة بعد اعلان الشاهد حربه على قادة حزبه واساسا على مدير الحزب التنفيذي حافظ قائد السبسي نجل رئيس الجمهورية. هذا الوضع اربك الاتحاد فاختار التراجع خطوتين ومراقبة ما ستحمله الاوضاع من تطورات.
هذا التراجع اقترن بشعور قادة الاتحاد بالقلق من مقاربة الحكومة في معاجلة ملف الاصلاحات الاقتصادية وخاصة ملفي كتلة الاجور والمؤسسات العمومية، اللذين كانا احد اسباب توتر العلاقة من الاول ويعقدان اليوم الوضع.
فاتحاد الشغل وان وصف في خطابه العلني خيارات الحكومة وطريقة عملها بغير الجدية فانه يدرك ان هناك ضغوطات مالية واقتصادية تفرض تنازل كل الأطراف، الحكومة والاتحاد، لمعالجة اكبر عقبتين في ملف الإصلاحات، وهذا يقال في كواليس المنظمة والأحاديث الثنائية بين أفرادها، فهم وان كانوا منزعجين إلا أنهم يدركون ان المشهد الحالي يحتم عليهم مراجعة لمواقف وتموقعات الاتحاد.
اولى هذه المراجعات كانت بان ابتعد الاتحاد عن ساحة التصادم مع الحكومة بعد خطاب الشاهد واختار ان يعلق الصراع الى حين استقرار المشهد على احد الخيارين، استئناف نقاشات وثيقة قرطاج2 او تقدم الشاهد إليهم بيد مفتوحة وحزمة من المكاسب.
فعلى ارض الواقع اليوم لم يعد موقف الاتحاد ذاته من الحكومة، وان كان اليوم يقف عند باب خيار التعليق وليس التعديل، فانه مرجح وبقوة للمراجعة الكلية والعودة إلى ما قبل الصدام، اي عودة دعم الاتحاد للحكومة ورئيسها.
هذا الخيار برز بقوة في بطحاء محمد علي بعد تعليق نقاشات وثيقة قرطاج، والأمر يعود إلى ان تعليق هذه النقاشات سحب من الاتحاد مجال البت في الملفات السياسية بشكل مباشر وصريح وتعليقها لا يعنى انه ابعد الاتحاد بل كان ورقة امسك بها الاتحاد ليضمها لمجمل ورقاته ليحسن شروط التفاوض مع الجميع، مع ثلاثة اطراف الاول رئاسة الجمهورية والثاني الاحزاب واخيرا الحكومة.
ورقة يبدو ان زمن لعبها قد اقترب، والقصد منها طرفان، الحكومة التي يريد الاتحاد مغازلتها لتتقدم اليه خطوة، وذلك باعلانه ان تعليق النقاشات يعني انه عاد الى مربعه الاول وان الحكومة لم تعد عدوا بل يمكن الوصول معها الى تسويات، هذه التسويات سيترك امرها للحكومة وما تقدمه، في ظل قناعة لدى جزء من النقابيين بان الشاهد لا حلول كثيرة امامه دون الاتحاد لهذا فان امر عودته للاتحاد والسعى للصلح امر مهم له اكثر مما هو مهم للاتحاد باعتبار ان الاول فتح جبهات صراع عديدة.
قراءة اتحاد الشغل تنطلق من منطق يقول ان على الحكومة السعي لربط جسور التواصل مع الاتحاد الذي يقبل بمراجعة موقفه منها وتعديله بـ180 درجة في اطار تنازل يقابله تنازل من الحكومة التي تنتظر منها بطحاء محمد علي التقدم اليها بخطوة لتفتح مشاورات جدية.
مشاورات يبحث جزء من النقابيين ان تنتهي بتقديم الشاهد مكاسب للاتحاد في اطار المفاوضات الاجتماعية والمجلس الاجتماعي وتسوية بعض الوضعيات وملف المؤسسات العمومية ، كي يتمكن الاتحاد من تسويقها لقواعده لاقناعهم بمراجعة الموقف بعد ان سبق وصعدت القيادة المركزية الخطاب لاسابيع طوال ضد الشاهد مما جعل الرجوع بوفاض خال امر غير مقبول.
هنا يفتح الاتحاد بابا للشاهد قد يستغله الاخير لتعزيز صف حلفائه ومحاصرة خصمه، حافظ قائد السبسي اكثر، خاصة وانه يعلم علم اليقين ان دخول قائد السبسي الابن في الصدام معه سابقا جعل اتحاد الشغل كمن يصطف خلف نجل الرئيس ضد رئيس الحكومة وهذا «محرج جدا» للاتحاد ولا يرغب به وهذا تضاعف بعد اعلان الشاهد عن دخوله في حرب مفتوحة مع قائد السبسي الابن.
حرج يريد الاتحاد التخلص منه ويريد الشاهد ان يستغله لتعزيز موقعه في الصراع، ولكن الرغبة وحدها هنا لا تكفي بل يجب ان يدفع الثمن، وهو البحث عن ارضية مشتركة لجملة من الملفات وان يقدم كل طرف تنازلا للأخر فيها.
فاتحاد الشغل الذي يبدي قابلية للتنازل في بعض الملفات منها ملف كتلة الاجور عبر القبول بزيادات مقنعة وغير مباشرة يريد في المقابل ان تتنازل الحكومة في ملف صندوق الدعم واصلاح المؤسسات العمومية عبر اتباع مقترح الاصلاح المدرج في مسودة وثيقة قرطاج 2 قبل تعليق نقاشاتها.
ففي الوثيقة قدم حل ارتضاه الاتحاد لمعالجة ازمة المؤسسات العمومية، عبر تقسيمها الى مؤسسات بغير صبغة إدارية وهي مستثناة و120 منشاة عمومية تصنف بدورها الى اربعة اصناف، تعالج حالة بحالة مع امكانية القبول بتفويت في جزء منها خاصة في المنشآت الناشطة في القطاعات التنافسية غير الاستراتيجي.
هذا تصور اولي للاتحاد لما قد يصبح توافقا بينه وبين الشاهد بمقتضاه يتخلى الاتحاد عن المطالبة براس يوسف، والاخير بات يسعى لإيجاد قنوات وساطة لحل الازمة، عبر فتح باب الحوار اولا والوصول الى حلول يتنازل فيها الطرفان.
هذا التراجع الجذري في الموقف مرده ان الاتحاد لم يعد بمقدوره تصعيد الموقف تجاه الحكومة كي لا يكون في صورة «كبش النطيح» لصالح حافظ قائد السبسي، فبعد تعليق نقاشات قرطاج بات الخوض في ملف الحكومة ينتهي إلى هذه الصورة، التي لا يمكن تجاوزها الا باحدى الفرضيتين، الانتصار للشاهد او استئناف النقاشات مع تعديل حركة النهضة لموقفها وتدخل مباشر من رئيس الجمهورية لتوجيه الحوار، هذا قد يقلل من حرج التصعيد ضد الشاهد، ولكنه غير مضمون العواقب ايضا.