فمع كل تصريح أو حركة تنتقل الأزمة إلى مربع جديد مقتربة من بلوغها نقطة الذروة التي يقابلها إعلان حرب الكل ضد الكل، حرب تدق طبولها وتشحذ السيوف لها، في انتظار يوم الاثنين الذي قد يحمل معه حلا سحريا.
مساء الليلة الفاصلة بين يومي الجمعة والسبت، أطل رئيس الحكومة يوسف الشاهد عبر التلفزة الوطنية، ليعلن موقفه من أزمة التعليم الثانوي وتعليق الدروس لليوم الخامس على التوالي، باحتساب السبت، الشاهد قدم مبادرة حكومته لحل الأزمة القائمة على عنصرين.
الأول ان يقع رفع حجب الأعداد وان تستأنف الدروس انطلاقا من يوم الاثنين، على ان تنطلق حكومته بالتزامن مع هذا في التفاوض مع النقابات وهذا العنصر الثاني لمبادرته، لم يغب عنه تحديد مجالات التفاوض، وحصرها في ملفات لا تشمل الزيادة في الأجور.
يوسف الشاهد في الدقائق الثلاث مدة كلمته، حريص على ان يكون الماسك بمقاليد الأمور، فهو وان حمل النقابة بشكل غير مباشر ما بلغته الأوضاع من تأزم فقد تجنب ان يحشر المربين في سلة واحدة بل وغازلهم بصفتهم أصحاب مشروع وأفكار، وليس طلاب مادة.
هنا كشف الشاهد على ان رفض الاستجابة لمطالب نقابة التعليم الثانوي مرده الوضع الصعب للمالية العمومية وليس رغبة حكومته في الرفض فهي، اي الحكومة، ستنطلق من الاسبوع القادم في المفاوضات الاجتماعية وستتفق مع الاتحاد على نسبة الزيادة المنتظرة في الاجور. مفاوضات عامة يعتبرها الشاهد ستنتهي بالاتفاق على زيادة عادلة للأجور تشمل جميع القطاعات دون استثناء، لهذا لا يرى داعيا إلى أن يخصص لأساتذة التعليم الثانوي مسار تفاوض للزيادة خاصا بهم.
اعلان الشاهد عن رفض حكومته الاستجابة لمطالب نقابة التعليم الثانوي ومن خلفها المركزية النقابية التي تبنت المطالب على مضض، لم يكن رفضا فقط بل اعادة صياغة المشهد لتكون النقابات والمركزية ان دعمت، هما المسؤولتين عما قد تبلغه الاوضاع من تازم، مع التصريح هذه المرة ان السنة البيضاء لم تعد خطرا بعيدا بل هي على مرمى البصر ان تواصل تعليق الدروس وحجب الاعداد اياما اخرى.
اطلالة الشاهد لاول مرة منذ بداية ازمة تعليق الدروس واعلانه عن موقفه، اعتبره وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي بمثابة «اطلاق مبادرة لحل الازمة»، مبادرة يراها الوزير قادرة على تجاوز الازمة، وهنا يتحدث الوزير ليس كعضو في حكومة الشاهد وانما كأمين عام سابق للاتحاد. صفتان تجعلان من الطرابسي افضل من يعبر عما يختمر في ذهن الطرفين ومن يكون حلقة ربط بينهما، وهو الدور الذي لعبه في كل الازمات بين الحكومة واتحاد الشغل منذ 2017.
الحل الافضل للجميع يتمثل وفق ما يفهم من تصريح الطرابلسي لـ«المغرب» في ان يقع القبول بان تكون المفاوضات الاجتماعية المزمع انطلاقها قبل نهاية هذا الشهر هي الاطار الوحيد لمناقشة الزيادات في الاجور، اي ان تقبل نقابة التعليم الثانوي بان تنخرط في هذا المسار دون مطالب مادية خاصة بها.
فـ«مطالب الزيادة الخاصة لا يمكن ان يقع الاستجابة لها طالما هناك مفاوضات عامة» كما يعلن الطرابلسي الذي اكد ان الحكومة حددت هوية الوفد المفاوض باسمها لتلتحق بالاتحاد العام التونسي للشغل الذي سبقها في تحديد هوية وفده المتفاوض، ليراهن الوزير والامين العام السابق على ان تحل المفاوضات الاجتماعية كل الخلافات بين الطرفين.
ففي نهاية المطاف للاتحاد العام التونسي للشغل تقاليد في التفاوض، وهذه التقاليد تنص على ان لا تكون هناك مفاوضات خاصة بالتوازي مع المفاوضات العامة، وفق ما اشار اليه الطرابلسي الذي اعتبر ما حدث من تصعيد من قبل النقابيين امرا يندرج في تهيئة المناخ التفاوضي وجزءا من الحوار بين الحكومة والاتحاد، وهذا الجزء لا يجب ان يحجب البقية.
خطاب الطرابلسي المطمئن الى ان الازمة ستجد طريقها الى الحل هذا الاسبوع، بحكم معرفته بطرفي الازمة، لم تغب عنه الاشارة الى ان الحكومة ستظل تتابع تطورات الوضع وما سيعلن عنه اتحاد الشغل، والرد لم يتاخر كثيرا، ففي الوقت الذي كان فيه محمد الطرابلسي يصرح لـ«المغرب» كان نور الدين الطبوبي يشارك في اجتماع نقابي بولاية قفصة.
من عاصمة المناجم تحدث نور الدين الطبوبي واعلن عن رفض المنظمة النقابية للمبادرة بالتصريح والتلميح، بل انه اعتبر ما قاله الشاهد ليس سوى «تهديد وتوعد للأساتذة» وهذا لن يقابله الا تمسك الاتحاد بالمربين ورفضه التخلي عنهم وعن مطالبهم.
هنا لم يغب عن الطبوبي لعب ورقته المضادة، فان لمح رئيس الحكومة لسنة البيضاء فان الامين العام اجابه بان ذلك لن يحدث، بل وان الاتحاد سيكون اشد حرصا على نجاح السنة الدراسية وان يفوت على الحكومة ما تبحث عنه، وهو تصادم الاتحاد مع الشعب بسبب مطالب قطاع التعليم الثانوي.
فالاتحاد يدرك ان تحركات نقابة الثانوي وضعته في مواجهة مباشرة مع الشارع، وان حالة الترقب الراهنة قد لا تطول ويقع الصدام بين الشارع والنقابة، وهذا اكثر ما يخشاه الاتحاد، لهذا اختار ان يعكس الهجوم ويعلن ان الحكومة اختارت ملف التعليم كـ«تعلّة» لابتزازه في ملف الإصلاحات الكبرى وهذه الخدعة «لن تنطلي على الشعب التونسي».
شعب يشدد الاتحاد انه منه واليه وان تحركاته كلها من اجله، بما فيها تحرك 1 ماي القادم، حيث لوح الامين العام ان عيد الشغل هذه السنة سيحمل مفاجأة لحكومة الشاهد يعلن عنها من قبة المنزه، دون ان يحدد ملامح المفاجأة.
رفض التصريح عما قد يحمله عيد الشغل من جديد، يقابله استنجاد المنظمة برئيس الجمهورية لحل الأزمة، حيث وجه الطبوبي نداء قال انه عاجل «لرئيس الدولة وعقلاء البلاد للتدخل وإنقاذ تونس من الخطر» وخص الرئيس بالتشديد على أن تدخله بات ضروريا لحل أزمة التعليم الثانوي، وانه مطالب بإيجاد حلول سريعة.
دعوة يقابلها عدم تعليق من رئاسة الجمهورية، لا بالقبول ولا بالنفي في انتظار ما قد يصدر عنها غدا الاثنين . فالرئاسة لا تزال تنظر للازمة بين الحكومة واتحاد الشغل على انه شأن يمكن حله بين الطرفين دون تدخل منها، بل وان اولويات المرحلة الراهنة كانت تستوجب ان لا تندلع هذه الازمة من اساسه.