حبيبنا، رفيقنا، صديقنا عزيزنا عبد الحميد بن مصطفى أو–عزيزي- عبد الحميد كما تربى ابني آمنة ومهدي و أبناء جيل كامل من رفاقي على مناداتك بهذا الاسم لأنك كنت تكبرنا سنا وهم بخيالهم الصغير كانوا يرون فيك الجد ولكن كنت أقرب الرفاق الكبار سنا الينا والى أبنائنا لحسن معاشرتك في ساحة النضال والعمل وأيضا في القعدات والسهرات و المناسبات الخاصة والعائلية التي لا نتخلف أبدا على دعوتك لحضورها.
يودعك أصدقاؤك ورفاقك وعائلتك التي حافظت عليك ورعتك الى آخر لحظة حتى تغادرالحياة في أنفة وشهامة وكرامة مثلما أنت أحببت الناس جميعا وأحببت تونس حرة فناضلت من أجل استقلالها وأحببت تونس ديمقراطية فنالك من أجل تلك القناعة السجن والتعذيب والمحاكمات الجائرة في أكثر من مناسبة ولكن بقيت وفيا لمبادئك ولحزبك رغم منعه وأعدت الكرة بعد كل سجن ولاحقة متعاليا عن كل حقد أو شماتة مثمنا لكل اجراء ايجابي في صالح تونس وتقدمها وان كان مصدره المسؤول السياسي الذي اتخذ الاجراءات التعسفية في حقك أوفي حق حزبك الشيوعي التونسي الذي كنت بلا منازع أحد قادته لأكثر من أربعة عقود وكنت دائما تردد في مقالاتك وتصريحاتك «ان معارضتنا معارضة انشائية».
باسم قيادة حزب المسار الديمقراطي التي شرفتني وكلفتني أمانتها الوطنية بقول هذه الكلمات التي لا تفي بحقك علينا لـتأبينك رغم أنني لست من أعضاء الأمانة الوطنية ولا القيادة المشرفة وكما أنك لم تنتمي تنظيميا الى صفوف هذا الحزب الذي ورث وطور وفتح آفاقا جديدة للتنظيم الشيوعي الذي انتميت اليه وكنت أحد قادته ورغم الاختلافات في التقييم والتي لا يسمح المكان والمجال لذكرها فإن الجميع يحترم نضالك ويقدر اسهامك ومساهماتك في تأصيل يسار وطني تونسي يساهم من موقعه الخصوصي في المجهود الوطني العام وما مشاركته اليوم في النجاح تجربة حكومة الوحدة الوطنية إلا تجسيدا لما آمنت به ودافعت عنه عندما قمت في مؤتمر ماي 1956 بنقد مظاهر من سياسة الحزب الشيوعي التونسي خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار وبالرغم مما نالك من تهجمات ونعت بكونك «شيوعي أرستقراطي» وصدور قرار ظالم بتجميد نشاطك إلا أنك لم تردد الى العودة الى نشاطك وتحمل مسؤوليات قيادية عندما قام الحزب بنقد ذاتي للمظاهر الخاطئة من سياسته في المؤتمر الاستثنائي الذي التأم في أواخر 1957 وقد وافقت عودتك الى حزبك عودة مناضل آخر وهو علي جراد الذي عرف بدوره الاقصاء من حضيرة الحزب والإبعاد من المسؤولية في سنة 1948 بسبب تلك السياسة الخاطئة التي انتقدتها.
ان رفاقك في حزب المسار وأحبابك من كافة أطياف العائلة التقدمية والوطنية والنقابية يقدرون ما قدمته من تضحيات حق قدرها ويعتبرونك منهم واليهم وإنهم ورثاء لتقاليد نضالية ساهمت فيها بالكثير من جهدك ووقتك ووهبت لها الجزء الأكبر من حياتك وعرفت من أجل ذلك الايقافات والتتبعات والمحاكمات وعرف جسمك النحيف الضرب والتعذيب في مناسبات عديدة بدأت سنة 1963 بعد حظر الحزب الشيوعي التونسي حيث تم الاحتفاظ بك في السجن بمعية الرفيقين محمد حرمل والهادي جراد لمحاكمة بدأ الاستعداد لها و لم تقع. وتم اعتقالك وتعذيبك ومحاكمتك من جديد في سنة 1968 وتحميلك مسؤولية الاحتجاجات الشبابية والطلابية وكنت بمعية رفاقك بلقاسم الشابي و هشام سكيك وصالح الزغيدي والصحبي الدنقزلي اضافة الى العشرات من مناضلي منظمة آفاق وكذلك المناضلين البعثيين والقوميين. ومن جديد يطالك التعسف والسجن والتعذيب في سنة 1972 بمناسبة المظاهرات والاحتجاجات التي عرفتها الجامعة رفضا لتدجين الاتحاد العام لطلبة وتونس.
حبيبنا رفيقنا صديقنا سي عبد الحميد نودع اليوم ونواري جسمك التراب لكن لن ننساك ابدا وسيحتفظ باسمك تاريخ النضال الوطني و التقدمي والعمالي والشيوعي التونسي . نودع ثالث ثلاثة أحببانهم في ثرائهم وتنوع اسهاماتهم وطباعهم وهم محمد النافع ومحمد حرمل وعبد الحميد بن مصطفى. ثلاثة كانت أسماؤهم رمزا وعنوانا للمحافظة على تراث نضال من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية امتد وتواصل رغم المنعرجات والهزات والأخطاء والتصحيحات الضرورية منذ أوائل القرن الماضي وسنحيي في الأسابيع القادمة مرور قرن على بروز هذا النضال في تونس خدمة لأهداف تحرير البلاد والفوز باستقلالها والمساهمة في لحاقها بالدول المتقدمة . تونس الحرية تونس الكرامة والعدالة الاجتماعية.
نودع ثالث ثالوث تهجمت عليهم احدى صحف المجاري كانت تدعى آنذاك «كل شي بالمكشوف» وتحديدا في سنة 1979 متهكمة على احدى البيانات الممضاة من طرف النافع وحرمل وبن مصطفى وكتبت مقالا استفزازيا تحت عنوان «الثلاثي المرح ». نعم صدقت هذه الجريدة من حيث لا تدري فعبد الحميد بن مصطفى الذي نودع جسده اليوم هو رمز المثابرة والصبر والجدية ولكنه أيضا رمز الضحك والنكتة والقعدة واللمة والغناء.
كان آخر لقاء معك يوم السبت الماضي و احتوى على جزء غنائي ورغم أنك كنت في غيبوبة المرض ومقاومة الألم الا أنك كنت تتابع بإشارات يدوية بعد أن غاب صوتك لتبدي تفاعلك مع صوت فاطمة التريكي وهي تغني لك بصوتها العذب ونردد معها الأغاني التونسية الخالدة التي أحببتها وبقي يحبها سي عبد الحميد الى آخر لحظة : أغاني علي الرياحي «ياظالمني» وخاصة المقطع الذي يذكر و»الروح معاك» وأغاني صليحة «آه آه ياخليلة يا ناسية الميعاد» وأغاني حبيبة مسيكة والهادي الجويني...والتي رددناها معه في سهرتانا الخاصة والعائلية.
تواعدنا والتزمنا بأن نكون معك ووعدتنا فاطمة أن نكون حولك من جديدة اليوم السبت لكنك أسرعت الخطى وقررت الذهاب في سهرة الجمعة قبل يوم من الموعد وها أننا حولك نودع جسمك الوداع الأخير ولكن لن ننساك ولن ننسى سخريتك ونقدك للظلم وتهكمك على المنافقين ولن ننسى حلمك وتسامحك . لقد كنت شاهدا أكثر من مرة كيف اتجه نحوك في مطاعم تونس وحاناتها التي رافقتك اليها كما رافقتك الى جهات عديدة رجال ليقبلوك ويعانقوك معتذرين «بكلمة الخبزة مرة» في اشارة لما لا قيت منهم من مضايقة تعذيب أو مراقبة ...
بفراق عبد الحميد بن مصطفي نودع ثالث ثالوث غادرونا في هذه السنة وهما الرفيق والنقابي الكبير العربي بن العربي ابن الجريد وقد كان هذا العربي حريصا في السنوات ألأخيرة على تذكيري بموعدنا الشهري لنلتقي مع سي عبد الحميد في أحدى مطاعم العاصمة. وودعنا أيضا زميلي في الكلية ورفيقي كما كان يحلو له أن يميزني بذلك النعت عن بقية الزملاء وهو الناقد والمفكر الكبير توفيق بكار بعد أن كنا ودعنا في السنة الماضية المناضل الكبير أحمد براهيم ومعذرة ان ميزت هذه الأسماء الثلاثة حتى أكثر وفاء لسي عبد الحميد لأنه كان يكن حبا خاصا لهؤلاء الثالوث الذي غادرونا وكم كان ألمه شديدا لعدم القدرة على حضور مواكب تشييعهم الى مثواهم الأخير.
كنت بلا منازع الأقرب الى قلوب المناضلين والمناضلات والحبيب والصديق لجميع التقدميين المنتمين أوغير المنتمين لصفوف الحزب الشيوعي حبيبا قريبا لكل الديمقراطيين والعاملين في الشأن العام من مناضلين سياسين وحقوقيين وأنت أحد أقطابهم أومحامين وأنت عميدهم وصحفيين وأنت أحد أقلامهم اللامعة في صحف الطليعة وتريبون دي بروقري وأسبوار والطريق الجديد.
بعيون دامعة وقلوب حزينة نودع جسم حبيبنا ورفيقنا سي عبد الحميد ولكن ولأننا عرفناه وعاشرناه السنين الطوال ونعرف أنه يحب الضحك والنكتة والغناء فإنني أستسمحكم بإنهاء هذا التأبين وأعرف سلفا أن روحك الطاهرة الحاضرة بيننا ستقبل بمقاطع مقتطفة من قصيدة ألقاها على شرفك صديقك المرحوم محمد الأخوة وذكرنا بها الممثل رجاء فرحات في سهرة لتكريمك انتظمت ببيتك في جوان الماضي وهي في جملة ما تقول :
أيا عبد الحميد كفاك فخرا
كما النسور تصون وكرا
راية النصر خافقة علينا ميمنة ويسرى
نودع جسمك ولكن ستبقى روحك حاضرة بيننا