مجالات الفنون والإبداع.وبعد السينما والمسرح والفن التشكيلي وبعض الناشطين الثقافيين نزور اليوم مجال السرد الروائي والقصصي من خلال لقاء وتقديم صديق عزيز وأستاذ جامعي مرموق وكاتب بارز وهو شكري المبخوت صاحب « رواية الطلياني» والتي حازت على جائزة البوكر سنة 2015 ليكون التونسي الوحيد الذي تحصل على هذه الجائزة ولعل ما أثار انتباهي عند الثلاث ساعات وأنا استرجع في راسي أهم المواضيع التي خضنا فيها تذكرت أننا تناقشنا في كل القضايا من مشواره الفكري والإبداعي إلى واقع الرواية في بلادنا.المسالة الوحيدة التي لم نخض فيها هي حصوله على جائزة البوكر وهي أهم جائزة عربية وكذلك حصوله على جائزة الكومار لنفس السنة.
أسوق هذه الملاحظة لأنها تشير إلى أن هاجس شكري المبخوت ليس الجوائز والتشريفات بل العمل الفكري والإبداعي والذي يسكنه إلى حد الهوس.وهذا الصمت من أهم أديب وروائي إنّما هو جزء من الخجل والحياء الذي يميز شخصية شكري المبخوت خاصة لما يأتي الحديث عن ذاته – فبقدر ما هو بليغ ويتحدث بكثير من السلاسة والإقناع عن فنه وأدبه وعن السرد وراهن الراوية يخيم عليه الصمت أو يجيب بابتسامة عندما تطرح عليه سؤلا شخصيا أو تثني على إحدى كتاباته أو إبداعاته.
ككل اللقاءات كان لقائي الأخير مع شكري شيقا وممتعا ومفيدا.ولئن كانت الرواية والأدب هي نقطة الانطلاق فليأخذنا الحديث وشجونه بعيدا في عوالم السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة – وهكذا يكون السرد القصصي عند شكري المبخوت هو أداته للولوج والدخول في الحركة الاجتماعية وسيرورة التاريخ بتناقضاتها وتشعّبها.فبدخول لعبة السرد كما يشير القاص تجد نفسك في عالم ممتع لأنه يتيح لك أن تخرج مخزون الحكايات وفي الآن نفسه تستكشف الجوهري في التاريخ العام الذي عايشته والتواريخ الشخصية التي تعرف نتفا وبعض الصور منها ولكن من اين اتى شكري المبخوت بهذا الكم الهائل من الحكايات وهذا المخزون من الروايات والمسارات الشخصية بين الفرح والانتكاسات ؟
نقطة الانطلاق ومنبع هذا الإلهام لن يكون إلا حيّ باب سويقة لهذا المتيم بحب المدينة العربي.ولد هناك وعاش في هذا المثلث الذي يجمع باب سويقة بالحلفاوين وباب الخضراء والذي شكل مند بداية القرن العشرين نقطة انطلاق الأفكار التونسية والمشروع الثقافي والفكري التونسي.فعبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب الدستوري القديم هو من مواليد الحلفاوين وكان يقضي اغلب أوقات فراغه في مقهى التوتة.كذلك الشأن لعلي الدوعاجي ومجموعة تحت السور والتي تشكلت وساهمت في بدايات ظهور المشروع الثقافي التونسي في ذلك المثلث.ونجد نفس الشيء بالنسبة لعبد العزيز العروي والفنان التشكيلي حاتم المكي والفنان صالح الخميسي وغيرهم كثير.
إذن سيكون هذا المثلث بعلاقاته الاجتماعية وشخصياته والآمال والأحلام التي يحملونها والأسوار الموجودة خلف الأبواب الموصدة مجالا وفضاء مليئا بالحكايات سيؤثث مخيال شكري المبخوت الذي سيمكننا من الاطلاع على شيء من هذه الحكايات ويطلعنا على بعض هذه الاسوار.
بعد الدراسة الابتدائية والثانوية سيلتحق شكري المبخوت سنة 1982 بدار المعلمين العليا أين سيختار التخصص في اللغة العربية وهذا الاختيار ليس وظيفيا بل لقناعاته بالفكرة الشائعة عند الإصلاحيين والتي تقول بأن التعليم هو أساس النهضة.وفي هذا الاختيار نجد المسافة التي ميزت شكري المبخوت ومساره المعرفي مع الفكر الماركسي التقليدي والذي يرى من خلال نظرية المادية التاريخية والتي ترى ان العامل الاقتصادي وقوى الإنتاج هي المحددة في حركة التاريخ وفي مشروع النهضة والتطور – فكان منذ الاختيار التعليمي بعيدا عن التيارات الفكرية السائدة ووجد نفسه في خانة الفكر النقدي القرامشي ومن هنا سيكون الفعل الثقافي والتعليمي هاجسا أساسيا عند شكري المبخوت ليكون الانغماس في الصيرورة الاجتماعية وتناقضاتها ونقطة انطلاق للهيمنة الفكرية في المجتمع هذا هو اذن جوهر مشروع شكري المبخوت السردي الذي ينطلق من الدراسة الأدبية والرواية باعتبارهما أهم الأدوات والوسائل لولوج المجتمع والانغماس في تناقضاته والآلام وأوجاع الشخصيات والأفراد وأحلامها ثم فتح أمامها أبواب الحرية والثورة وسيكون هذا الخيار المنهجي وهذا المشروع نبراس شكري المبخوت في عمله البحثي والروائي.
وهذا الانغماس في الحركة السياسية والاجتماعية سيعرف تطورا كبيرا عند دخوله الجامعة والتي كانت تعرف حركية سياسية كبيرة في بداية الثمانينات مازالت انعكاساتها حاضرة وليومنا هذا.وكان الصراع في تلك الفترة بين التيارات اليسارية والحداثية والتي بدأت في التراجع والأفول من جهة والتيارات التقليدية والاخوانية والتي عرفت صعودا كبيرا في تلك الأيام.وقد استفادت هذه التيارات من عاملين أساسيين.
العامل الأول هو أزمة الدولة الوطنية والحداثية وتوجهها نحو القمع والاستبداد لمواصلة بسط نفوذها على المجتمع.
أما العامل الثاني فهو انتصار الثورة الإيرانية ووصول الخميني للسلطة والذي أعطى مشروعية كبيرة في تلك الأيام لإمكانية العودة إلى مشروع الخلافة والدولة الإسلامية.
إذن ستعرف الثمانينات زخما فكريا وسياسيا كبيرا .وسيلتقي شكري المبخوت بكل أبناء هذا الجيل والقيادات السياسية الجديدة (ومن ضمنهم الشهيد شكري بلعيد ) ليعيش على وقع النقاشات المحمومة الساخنة والصراعات السياسية والفكرية.
وسيحمل شكري المبخوت هذا الخضم الهائل من الأفكار والنقاشات إلى مجال النقد الأدبي والإبداع وليكون نافذته على الحركة الاجتماعية وصيرورة تناقضاتها.
سيواصل شكري المبخوت مساره الأكاديمي ليتحصل على شهادة الكفاءة في البحث ثم التبريز في اللغة العربية ليبدأ التدريس في الجامعة سنة 1988.وسيتدرج في أهم المناصب العلمية.فبعد حصوله على دكتوراه الدولة سنة 2001 سيتم انتخابه عميدا لكلية الآداب بمنوبة سنة 2004.وستكون هذه المهمة من أصعب المهام في حياته المهنية حاول فيها قدر وسعه
الحفاظ على استقلالية المؤسسة في ظل نظام قمع الحريات الأكاديمية.ستتوج هذه المسيرة المهنية بانتخابه رئيسا لجامعة منوبة اثر الثورة ليكون بذلك أول رئيس منتخب لهذه الجامعة بعد أن كان التعيين هو القاعدة قبل الثورة.
وسينطلق مند بداياته في الجامعة في حياة فكرية خصبة وثرية على مستويين : الأول هو البحث الجامعي والأكاديمي والثاني على مستوى الكتابة الصحفية.وقد انطلقت الحياة العلمية والبحثية منذ سنوات الدراسة حيث نشر مع رجاء بن سلامة ترجمة للكاتب والناقد الأدبي البلغــــاري Tzvetan Todorov كتابــه المهـــم « Poétique de la Prose أو «الشعرية» والذي تم نشره عن دار توبقال المغربية والتي قامت بدور مهم في التعريف بالعلوم الاجتماعية والأدب في السنوات التسعين.
وقد اصدر شكري المبخوت العديد من الدراسات في مجال النقد الأدبي منها «السيرة الذاتية عند طه حسين «في بداية التسعينات .ويعتبر طه حسين» من أهم التنويريين العرب وسيرته كانت سيرة صراع حداثي ضد التقليديين في الأزهر.وكان إنتاجه الفكري وجهده لتغيير وتثوير المؤسسات التعليمية والفكرية البالية والتي ورثناها من عصور الانحطاط.
ثم اصدر بحثا تحت عنوان « في التراث النقدي العربي» وقد حاول في هذا المؤلف قراءة نظرية التقبل والتلقي للنص الأدبي عند القارئ والجمهور العريض.وقد ركز في هذه الدراسة بصفة خاصة على أزمة تلقي الشعر الحديث في بلداننا.وقد عمل الباحث على الغوص في أصول الذائقة الجمالية العربية والأسباب التي تجعلها قاصرة عن التفاعل مع جمالية القصيدة الحديثة.
وفي الآن نفسه ومع هذا النهم البحثي واصل شكري المبخوت عمل الترجمة لتعريف القارئ على أهم الانتاجات الفكرية والأدبية العالمية.فقام بترجمة كتاب Fictions troublantes لفتحي بن سلامة تحت عنوان «تخييل الأصول» وموضوعه الجدل الدائر عن روايات سلمان رشدي بعد صدور رواية «les versets sataniques». وإطلاق فتوى الخميني بإهدار دمه.وقد طرح هذا الكتاب مسالة هامة وهي علاقة الخيال الأدبي بالموروث الديني والمقدس بشكل عام.وقد كانت ترجمة هذا الكتاب رهانا بين شكري المبخوت وفتحي بن سلامة والذي كان له شك في إمكانية صياغة المفاهيم الفلسفية التي طرحها الكتاب بلغة عربية واضحة وأحيانا أنيقة.
وسيتطور العمل البحثي والأكاديمي لشكري المبخوت منذ منتصف التسعينات عندما ازداد الاستبداد وتراجعت مساحات العمل الفكري المستقل .وبعد هذا الانغلاق رجع شكري المبخوت إلى العمل الأكاديمي للتركيز على الدراسات الجامعية البحتة لتتتالي الإصدارات التي اذكر منها «إنشاء التلقي في العربية» و»نظرية الأعمال اللغوية» والاستدلال البلاغي « ودائرة الأعمال اللغوية».
وكما أشرت فإن عمل ونهم شكري المبخوت الفكري لم يقتصر على الدراسات الأدبية بل شهد مساهمات هامة في الصحافة الأدبية في بداية التسعينات وعلاقة أديبنا بالصحافة قديمة وتعود إلى سنوات المراهقة عندما نشر وهو ابن 15 سنة مقاله الأول في الصفحة الأدبية لجريدة الصباح والتي كان يشرف عليها محمد بن رجب.ثم نشر عديد المساهمات والمقالات في عدد من الصحف الأخرى المستقلة كالرأي والموقف وحقائق.وكان ينشر في بعض الأحيان بأسماء مستعارة وهذا ليس خوفا من الرقابة ورجال السلطة بل يدخل في خانة الحياء الذي يميز شخصيته.أما التجربة الأهم في الكتابة الصحفية فستكون في جريدة الصحافة عند إصدار ملحق «ورقات ثقافية» بمبادرة من الكاتب حسن بن عثمان وبتشجيع من مدير دار لابراس آنذاك محمد محفوظ رحمه الله وبإشراف الأستاذ توفيق بكار رحمه الله.وكان شكري من ضمن الفريق الذي اشرف على إعداد هذا الملحق والذي كان له دور كبير في دفع وتنشيط الساحة الثقافية وفي تحريك النقاش الثقافي.
إلا أن هذا المشروع الطليعي لم يعمر طويلا.فقد ظهر في فترة منتصف التسعينات حيث بدأ النظام يتجه نحو الانغلاق بعد تصفية خصومه وخاصة الإسلاميين في ذلك الوقت.وبالرغم من هذا الوضع السياسي فقد راهن شكري المبخوت على هذه التجربة ودافع عن ضرورة فتح كوة في هذا الظلام المخيم لمواصلة نوع من المقاومة الثقافية في ظل المنظومة السائدة.وحسب شكري المبخوت هو دور المثقف الذي يعمل على فتح المساحات والفضاءات من اجل التعبير عن مشروعه الثقافي والدفاع عن استقلاليته.
إلا أن سيف الرقابة سيمتد إلى هذا الملحق والذي سيتهمه احد أن أذناب السلطة بأنه شيوعي إلى أن جاء إلى الجريدة احد المسؤولين في الشؤون السياسية في وزارة الداخلية ليصبح الفاتق الناطق في هيئة التحرير ويقرر إيقاف الملحق.
هذه التجربة المرة وانغلاق الوضع السياسي العام ستدفع شكري المبخوت إلى الابتعاد عن الفضاء العام والتراجع إلى الميدان العلمي والبحثي للانغماس في الدراسة والنشر والتحليل.
لكن أين ذهب مخزون الحكايات التي حملها شكري المبخوت من إحياء المدينة العتيقة واثرى بها خياله وذاكرته ؟ هل غابت وانتفت مع المرور الى البحث العلمي ؟ هل أتت الرحلة الأكاديمية والمهام المهفية الهامة التي تقلب فيها على هذا المخزون وحكمت عليه بالاندثار والضياع ؟ هل تلاشت هذه الحكايات وهذه الشخصيات التي سكنت طفولة وسنوات المراهقة في
تجربة شكري المبخوت؟
في الحقيقة لم يغب ولم يتلاش هذا المخزون من الحكايات ولئن لم يعرف طريقه إلى الجمهور بل بقي دفينا في ذاكرة الكاتب ومخيلته.وستكون الثورة الحدث المؤثر الذي سيدفع الكاتب إلى فتح جزء من هذه الذاكرة واطلاعنا على بعض هذه الحكايات الدفينة .
وقد دفعته إحدى أراء الفيلسوف والكاتب الفرنسي Regis Debray في الانطلاق في كتابة روايته الأولى – وقد أشار Debray في إحدى مقالاته انه لما تكون لنا مشكلة ولنا حل نكتب كتابا ولما تكون لنا مشكلة بدون حل فإننا نكتب رواية.
وهذه الفكرة تنطبق على تجربة شكري المبخوت فعند انطلاقه في كتابة رواية الطلياني سنة 2012 كانت الحيرة قد استبدت بالتونسيين وأحدثت الحركات الإسلامية وخاصة السلفيين رعبا لم تعرفه البلاد من قبل – وأصبح دعاة السلفية ينادون جهارا بتحجيب البنات وبختانهم.
وهذا الرعب والتراجع عن قيم ومشروع حداثي خلناها من مقومات ومن أسس تجربتنا السياسية دفعت الكاتب إلى التساؤل : هل كانت حداثتنا قشرة اخفت هذا الكم من الحركات المحافظة والدعوات الرجعية.ثم كان التساؤل حول مكان اليسار والذي كان في مجالس حماية الثورة وكان مؤتمنا على قيم الحداثة وقيم الثورة.غاب اليسار وفسح المجال واسعا للحركات السلفية لتصول وتجول وتبث الرعب والعنف في البلاد.والسؤال الآخر الذي شغل تفكير المؤلف يهم الدولة العميقة التي عمل الإسلاميون على تفكيكها .
أسئلة عديدة كانت تجول في رأس الكاتب في تلك الأيام الصعبة والتي عشناها بعد نهاية نشوة الأيام الأولى للثورة.ولطرح هذه الأسئلة وجملة هذه المخاوف التي لم يكن ممكنا معالجتها التجأ الكاتب إلى الرواية إلى جانب مخزون الحكايات التي تقدمها فهي كذلك تأمل وتفكير حول الواقع ومن هنا سينطلق الكاتب في تجربة كتابة رواية الطلياني سنة 2012.وقد استعاد لكتابة هذه الرواية فترة شبيهة بمرحلة ما بعد الثورة وهي فترة الانتقال من حكم بورقيبة إلى بن علي – فكانت الطلياني هي تعبير عن نفس الحيرة والخوف وصياغة سردية لهذه التساؤلات والهموم.
وفتح شكري المبخوت مخزون الحكايات الذي يحمله منذ سنوات الصبا وتوالدت الحكايات ونمت وتطورت لتصبح تأملا في علاقة اليسار بالسلطة وبخصومه الإيديولوجيين.ولم تكن هذه الكتابة السردية من النوع السياسي بل أعطى شكري المبخوت لشخصياته عمقا إنسانيا بتردداتها وتناقضاتها وحيرتها ونذالتها ونبلها.
وقد كانت هذه التجربة ممتعة لأنها مكنت الكاتب من دخول عالم جميل أتاح له أن يفتح ويقاسمنا شيئا مما يحتويه مخزون الحكايات.ولكن السرد الروائي في نفس الوقت مكن الكاتب من استكشاف الخط العام والجوهري في السيرورة التاريخية وقد عبرت الشخصيات الرئيسية عن قراءة الكاتب لتاريخنا وحركته والتي لا تعتمد القطيعة بل هو في حركة لولبية متواصلة.
اثر «الطلياني» والنجاح الكبير الذي عرفته واصل الكاتب مع رواية «باقندا» والتي دخل بها ميدان كرة القدم وعلاقاته بالسياسة والتي نشرت سنة 2016 ثم كتب مجموعة قصصية تحت عنوان «السيدة الرئيسة» ونشرت سنة 2015.
يبقى السؤال الأساسي والرئيسي هو علاقة تجربته السردية بالأدب التونسي ثم دور الأدب في القصة في بناء المشروع الحضاري التونسي وتفرده ؟ نقطة الانطلاق والتي أشار إليها اغلب المبدعين هي ثلاثينات القرن الماضي.فكما ستكون هذه الفترة نقطة إعادة انطلاق المشروع السياسي التونسي مع الحركة الوطنية فإنها كذلك ستكون نقطة انطلاق المشروع الفني والثقافي في بلادنا.وعلى مستوى الأدب ستكون تجربة علي الدوعاجي نقطة الانطلاق لظهور لغة سردية تونسية وتتميز هذه اللغة بانتمائها للغة العربية الفصيحة لكنها قادرة في الآن نفسه على استيعاب الواقع بتعدد لهجاته وأصواته.وبذلك سيكون علي الدوعاجي صاحب «سهرت منه الليالي» و«جولة حول حانات البحر المتوسط» هو أب الرواية التونسية والمشروع السردي في بلادنا حتى ان اهم روائيي بلادنا البشير خريف صاحب الرواية المعلم «الدقلة في عراجينها» و«برق الليل» يصرح بانتسابه إلى مدرسة الدوعاجي .
إذن ستكون مجموعة تحت السور وعلي الدوعاجي نقطة انطلاق المشروع الثقافي التونسي في علاقة وثيقة بالمشروع السياسي الوطني .وقد ربطت مفكري ومبدعي تلك الفترة علاقات صداقة وتبادل فكري وثقافي فالشابي صاحب الثورة الشعرية والتخييلية في كتابه «الخيال الشعري عند العرب « والطاهر الحداد والذي يعتبره شكري المبخوت أعظم مفكر تونسي إلى اليوم وعلي الدوعاجي وبيرم التونسي ومصطفى خريف كانوا يلتقون في فسحات مشتركة يومية في حديقة البلفيدير في بداية الثلاثينات –وقد وضعت هذه النقاشات وكتاباتهم الأسس الصلبة لنشأة الحداثة الأدبية التونسية.والى جانب هؤلاء الأدباء والكتاب يضيف شكري المبخوت زين العابدين السنوسي صاحب مطبعة ومجلة العالم الأدبي وهو أول من كتب تاريخ الأدب التونسي.وهذا المشروع أو كتابة تاريخ الأدب هو تعبير عن شعور بالانتماء القومي ومظهر ثقافي نقدي لتشكل الذات ثقافيا وسياسيا.
ويشير شكري المبخوت إلى عديد المحطات الأخرى التي لعبت دورا كبيرا في تشكل الحداثة الفكرية والفنية التونسية ومن ضمنها تأسيس الرشيدية في أواسط الثلاثينات والإذاعة التونسية.وسيكون لدولة الاستقلال دور هام في بناء صرح الأدب التونسي من خلال إحداث دار النشر والتوزيع وإحداث بعض الجوائز الأدبية كجائزة علي البلهوان لبلدية تونس والتي ساهمت في تطوير الإنتاج الروائي والخطاب السردي.فقبل الاستقلال لم تنشر رواية واحدة وبلغ عدد الروايات المنشورة سنة 1970 سبع عشر رواية.
كما ساهمت عديد المؤسسات الأخرى في تطوير هذه التجربة الروائية كمجلة الفكر ومجلة قصص ونادي القصة في الوردية الذي اشرف عليه العروسي المطوي وعديد الملاحق الأدبية والثقافية في الصحف التونسية كملحق العمل الذي اشرف عليه الحبيب الجنحاني وعزالدين المدني.
وستتوجه كل هذه المؤسسات إلى دعم بناء سردية تونسية تنخرط في المنحى الذي فتحه علي الدوعاجي ونذكر من أثار تلك الفترة بعد الاستقلال الروايات التي تحدثت عن فترة الكفاح الوطني كقصة «حليمة» للعروسي المطوي و»التوت المر» والرواية النهر «أرجوان» لمحمد المختار جنات والتي لم تنشر كلّها.كما ساهمت سلسلة عيون المعاصرة التي اشرف عليها توفيق بكار في دار الجنوب بدور هام في تطور القصة في بلادنا وفي تعريف أدبائنا بتجارب قصصية عربية وعالمية.إذن عرفت بلادنا نهضة أدبية لها عديد المميزات المحلية والتي تبرز في روايات البشير خريف وحسن بن عثمان وحسنين بن عمو والمرحوم محمد الباردي .ويضع شكري المبخوت نفسه في هذا الاتجاه السردي الدوعاجي والذي طوره خريف.لكن تجربتنا السردية لا تقتصر على هذا التيار ويشير شكري المبخوت إلى التيار المسعدي والذي فتح بكتابه «حدث أبو هريرة قال» مجالا جديدا في الكتابة السردية ولغة تعتمد التفكير الفلسفي وتختبر اشكالا قديمة ولغة معتقة لبناء نص سردي حديث في رؤيته ودلالته.ولكن هذه التجربة لم تتواصل ولم يبق منها في الغالب الا الجانب التجريبي الشكلي دون العمق الفلسفي
في كتابات فرج الحوار وهشام القروي.والسؤال الأخير الذي توجهت به إلى شكري المبخوت هو هل نضب معين ومخزون الحكايات التي يحملها والجواب كان بالنفي لان تونس حكاية ثرية ومتنوعة كالفسيفساء .ولكن لابد من جهد مضاعف للروائيين كي يكتبوا هذه القصة الفاتنة ليس بحثا عن وهم الانتماء إلى أمة أو دولة أو وطن رغم شرعية ذلك ولكن لفهم الإنسان التونسي وحركته في التاريخ القريب وفي المجتمع بكل تعقيداته وتحولاته ولان السرد والرواية تحديداهما اللذان يعبران عن إدراكنا للواقع ونفسيات الناس وتجاربهم أكثر من دراسات الباحثين في علم الاجتماع وجزء من هذه الحكايات ومن هذا المخزون سيؤثث الجزء الثاني من رواية الطلياني والتي انتهى من كتابتها شكري المبخوت وسيقع نشرها قريبا.هذه الفسحة مع أحد أهم باحثينا في مجال الدراسات الأدبية واحد أهم روائيينا تنير السبيل حول مساهمة ميدان هام من ميادين الإبداع والسرد القصصي في بناء المشروع الثقافي التونسي والذي سيساهم مساهمة أساسية في ظهور المشروع السياسي التونسي وتفرده مقارنة بكل التجارب السياسية الأخرى في المحيط العربي والإسلامي.