ولكن خبرة الأشهر وهذه السنين الست بيّنت زيف كثير منها وظهر تهافت شخصيات وأفكار وتيارات وأن بعض الوجاهة التي كانوا يعبرون عنها إن هي إلاّ كالزبد الذي يذهب جفاء ولا يبقى في الأرض لأنه غير نافع للناس ..
من هذه «النجوم» الآفلة فريد الباجي الذي كان يقدم نفسه كأحد اكبر خصوم السلفية في بعديها الوهابي والاخواني وكمدافع متحمس لإسلام تونسي زيتوني معتدل يقينا من شر هذا الإسلام المتطرف العنيف الدخيل على ثقافتنا وأعرافنا وتقاليدنا ..
ولكن في كل مرة لم يتحدث فيها فريد الباجي عن «الوهابية» وأفتى لنا برأيه في مسألة ما إلا وبدا شبيها بها ، يختلف معها في التفاصيل – حتى وان كانت هامة – ويلتقي معها في جوهر القراءة الحرفية الماضوية للنصوص الدينية ..
ولو تعمقنا أكثر في المسار «الفقهي» للرجل لتبيّن لنا بوضوح أن خلافه مع السلفية الوهابية أو الاخوانية لا يعدو أن يكون خلافا في تموقع الخطاب لا في مضمونه الجوهري ..اي أنه خلاف حول أحقية الحديث باسم الدين في تونس لا خلافا في جوهر التصور الديني لتونس القرن الواحد والعشرين ولشعب بصدد التحرر التدريجي من الاستبداد بكل أشكاله ..
واليوم إشكالنا مع ما يمثله فريد الباجي ليس فقط على مستوى الأفكار بل وكذلك لأنه أصبح من «المنتدبين الجدد» في نداء تونس فهو إذن ينطق باسم حزب الحكم ..حزب انتصر في انتخابات 2014 على نقيض الأفكار التي ينافح عنها هذا «المنتدب الجديد»..
في حوار أدلى به فريد الباجي لجريدة «الوطن» يوم 23 جويلية 2017 قرأنا الشيء العجاب .. بل قرانا تحريضا على القتل والصلب لإعلامي تونسي الزميل هيثم المكي معتبرا إياه مسلما مفسدا يستوجب ، ضمنيا ، إقامة حدّ الحرابة عليه أو على الأقل فحكمه واقع تحت فضاء هذه الآية ..
لننطلق من هذه الآية بداية « إنمّا جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتّلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض» (سورة المائدة الآية 33) يقول فريد الباجي في البداية بأن الذين نزلت فيهم آية الحرابة هم مسلمون لأن أفعال القتل والسرقة والاغتصاب وبقر البطون والذبح هي ليست أفعالا كفرية وأن الفرق الجوهري بينه وبين الوهابيين أنهم يكفرون من حارب الله ورسوله بينما هو المسلم الزيتوني المعتدل لا يكفرهم ولكن يقول بفسادهم وبالتالي في انطباق آية الحرابة عليهم ويضيف «الشيخ» : آية الحرابة كما قلنا تطلق على المسلمين الذين يفسدون في الأرض والمكي (هيثم المكي ) مسلم اعتبره مفسدا في الأرض ..»
هذا «الرأي» الذي نقلناه بدقة يختزل مأساة بعض من نصبوا أنفسهم ممثلين شبه رسميين للإسلام التونسي الزيتوني المالكي «المعتدل »..
فالصادق شورو النائب التأسيسي الاخواني السلفي يكون على ضلالة عندما يستشهد بآية الحرابة في المجلس التأسيسي للتشهير بالاحتجاجات الاجتماعية أما القيادي الندائي المنتدب حديثا والسني المالكي الزيتوني عندما يقترف نفس الفعلة يكون ذلك كله بردا وسلاما على من نزلت فيه آية الحرابة وليحمد الله هيثم المكي وغيره من محاربي الله
ورسوله مادام شيخنا الجليل قد عدهم في صفوف المسلمين على عكس «المتطرفين الوهابيين» الذين يكفرونهم ..ولا يهم إن كانت النتيجة واحدة : القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي ..المهم هو أن المصلوب في الحرابة الوهابية كافر بينما المصلوب في الحرابة الباجية (نسبة الى فريد الباجي) مسلم !!
إنها المضحكات المبكيات ..انه الجهل بالدين وبالتاريخ وبالعلم معا ..وكأننا اليوم معنيون بالتمييز بين التطرف «اللايت» لفريد الباجي والتطرف الأصلي للسلفية الوهابية !!
الغريب أن فريد الباجي يقول في نفس الحوار أنه «رمز الفصل بين الدين والسياسة» ويريد اليوم بصفة ضمنية تطبيق حد الحرابة وقبلها الدفاع عن الحجاب وحتى النقاب !! اي فصل هذا بين الدين والسياسة ؟ ! الواضح أن فريد الباجي يقصد الفصل بين الدين والتوظيف الحزبي له كما كانت تفعل ذلك دوما الحركات الاخوانية ..ولكن المقصود فكريا وسياسيا هو الفصل بين مجالي الدين والسياسة وان الدولة المدنية لا تحتكم إلى أحكام الشريعة الإسلامية في اي تفصيل من تفصيلاتها ..
وحتى ما بدا متشابها مع أحكام وردت في الشريعة أو الفقه الإسلاميين فالقاضي لا يطبق إلا الأحكام الوضعية في مختلف المجالات القانونية .. فهو لا يعود إلى القران الكريم أو الحديث النبوي أو كتب الفقه ..هو يعود فقط إلى القوانين الوضعية ..وما لا يعلمه فريد الباجي أن «حد الحرابة» لا يوجد مطلقا في القانون التونسي ..مثله مثل كل الحدود التي تتضمن عقوبات جسدية كقطع يد السارق أو جلد أو رجم الزاني الخ.. ألا يعلم فريد الباجي كل هذا !!
ثم على سبيل النقاش الفكري لا غير ألا يعلم فريد الباجي أن آية الحرابة نزلت في المجموعات التي تقطع الطرق أو التي ترفع السلاح ضد الجماعة الإسلامية ..كيف يقفز عن كلمة جوهرية في بداية الآية القرآنية :«إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله «ألا يعلم فريد الباجي أن كل المفسرين القدامى قد تحدثوا عند شرحهم للآية عن ظاهرة «الخروج» أي الخروج المسلح على الدولة (معارضة سياسية مسلحة) او على المجتمع (قطاع الطرق..) ..
كيف يدفع «اعتدال» فريد الباجي إلى تعميم مفهوم «محاربة الله ورسوله» إلى إعلامي «سلاحه» الوحيد الكلمات ؟ ! ثم يقول لنا بعد ذلك انه «رمز» الفصل بين الدين والسياسة وانه المنافح الأول ضد الوهابية !! ألا تعلم أن بينك وبين الوهابية خيطا رقيقا لا يكاد يبصره الراسخون في العلم ؟ !
ما يجمعك مع السلفية الوهابية – على مستوى المعتقد – اكبر بكثير ممّا يفرقك عنهم ..فالأساسي اليوم ليس ذلك الجدل النصوصي العقيم بين دعاة المالكية الاشعرية أو السلفية وأنصار الوهابية الحنبلية ..فهذا النقاش لا يعني مجتمعنا ولا ينتمي لعصرنا..
الفرق الأساسي هو بين من يتبنى فهما حرفيا للنصوص الدينية – مهما كان اجتهاده في تفسيرها وتأويلها – وبين من يعتبر أن جوهر الدين باق أما عرضه التشريعي فمتحول مع تحولات المجتمعات البشرية ..
وفريد الباجي الذي ظنناه للوهلة الأولى من أنصار هذا التمشي الروحاني الصوفي العميق اتضح أنه من حفدة فقهاء الظاهر من الحشوية.. ولكن ما فاته انه يفصلنا عنه وعن أمثاله أكثر من ألف عام ممّا قد يستعصي عليه عدّه..
فمن غرائب الدهر ان نجد في ذات اليوم تقريبا مصادقة عظيمة في مجلس نواب الشعب على مشروع قانون القضاء على العنف ضد المرأة صادقت عليه كل الكتل ولم تتخلف عن هذا المسار حركة النهضة التي يتهمها فريد الباجي بدعمها للوهابية لفترة طويلة ثم يصدر موقف من قيادي في حزب خلناه مدنيا ديمقراطيا يذكرنا بأحلك فترات الانحطاط الإسلامي ..
وفي الحقيقة الحوار الجدي الوحيد مع فريد الباجي في هذه «التخريجة» هو حواره مع القضاء لأن التحريض على القتل والصلب هو جريمة في تونس ليس رأيا فقهيا يتندّر به في المجالس ...