قراءة وتحليل زياد كريشان
في عددنا ليوم الثلاثاء الفارط نشرنا الجزء الأول من الباروميتر السياسي لشهر جويلية الحالي وركزنا حينها على الانخفاض الكبير لنسبة تشاؤم التونسيين نتيجة بداية حملة الحكومة على الفساد وكيف أن رئيسي السلطة هما اللذان استفادا من هذا المناخ العام..
في هذا الجزء الثاني والأخير سنقف عند تقييم التونسي للسياسات العمومية ولرأيه في استشراء العنف وللمستقبل المالي لعائلته ولرأيه في أداء جملة من المؤسسات والهياكل والمنظمات
اللافت للنظر في الباروميتر السياسي لهذا الشهر هو أن موجة التفاؤل التي تحدثنا عنها يوم الثلاثاء الفارط انعكست بدورها على تصور التونسي للوضع المالي لأسرته فعندما يسأل عن وضعه الحالي مقارنة بالسنة الفارطة يجيب بوضوح بأن هذه السنة أسوأ بنسبة %52 مقابل %15 فقط يعتبرون أن هنالك تحسنا قد طرأ على وضعيتهم المالية ولكن عندما يسأل من جديد حول توقعه للسنة القادمة يجيب هذه المرة بأن الوضع سيكون أفضل (%42.2) مقابل ربع يتصور أنه سيكون أسوأ (%27.3) وربع آخر يعتقد بأن الوضع سيكون على حالته هذه (%26.1) ولكن هذا لا يعني أن التونسي قد تجاوز بصفة نهائية نظرته التشاؤمية إذ مازالت أغلبية طفيفة تعتقد أن وضعها الحالي على علاته (هو أفضل من وضع الجيل القادم %52.1 مقابل %45.2) وهذا يعني أن عناصر التشاؤم مازالت مهيكلة للمخيال التونسي رغم ما طرأ عليها من تحسن واضح هذا الشهر بفعل حملة الحكومة على الفساد ..
التونسيون وغول العنف
من الأسباب التي تسمح لنا بفهم استمرار عناصر التشاؤم عند التونسي هو اعتقاده بأن العنف المادي (الجسدي) قد تفاقم كثيرا خلال هذه السنوات الخمس الأخيرة(%85.3 يرون أنه ازداد مقابل %11.4 فقط يرون أنه تقلص)وعندما نفصل هذا الإحساس بالاعتماد على مختلف عناصر التمايز الاجتماعي ، نرى أن الإحساس بازدياد العنف المادي قوي جدا في ولايات الشمال الشرقي : بنزرت وزغوان ونابل بنسبة %92.9 مقابل نسب أضعف في ولايات الجنوب %77.6 في الجنوب الشرقي و%78.9 في الجنوب الغربي ...
وكما هو متوقع فإحساس النساء بازدياد العنف المادي أرفع منه عند الرجال (%87.9 مقابل %82.9 ) وكذا الشأن بالنسبة للطبقة المرفهة (%88.9) مقابل الطبقة الشعبية (%82.5)..
ولكن الغريب هو أن الشباب دون الخامسة والعشرين هو الأكثر حساسية لازدياد منسوب العنف الجسدي في البلاد (%93.3) مقابل انخفاض نسبي لهذا الإحساس عند من تجاوز الستين (%81.8)..
كما أن هذا الإحساس ينمو طردا مع المستوى التعليمي فهو في أدنى حدوده عند الأميين (%73.9) وفي أقصاه عند أصحاب التعليم العالي (%89.1)..
وما يصح عن العنف المادي يصحّ بدوره عن العنف اللفظي إذ يعتقد ثلاثة أرباع التونسيين (%75) بأنه ازداد خلال الخمس سنوات الأخيرة مقابل الخمس (%20.1) الذين يرون أنه تراجع ..ونكاد نجد تقريبا نفس السوسيولوجيا في العنفين المادي واللفظي فالإحساس بازدياده هو الأقوى في ولايات الشمال الشرقي وعند النساء والشباب وأصحاب مستوى التعليم العالي
في نجاحات وإخفاقات الحكومة
يرى عموم التونسيين أن الحكومة قد نجحت في إرساء الأمن (%88) وفي مكافحة الإرهاب (%86) ولكنها في المقابل قد فشلت في تحسين ظروف العيش والحدّ من غلاء الأسعار (%81) وكذلك الحد من البطالة (%78) وفي التنمية الجهوية والاستثمار في الجهات (%74)..
أي أن الحكومة قد نجحت في إرساء الأمن ومكافحة الإرهاب وفشلت في تحقيق التنمية وتحسين مستوى المعيشة ..
ولكن ينضاف إلى كل هذا الإحساس بفشل الحكومة في إصلاح التعليم (%71) وفي تحسين القطاع الصحي (%66) والبنية التحتية (%65)..
أما فيما يتعلق بمكافحة الفساد المالي والإداري فهنالك %51 من العينة يرون أن الحكومة قد فشلت في هذه المهمة مقابل %43 يرون أنها قد نجحت .. أي أن الحملة على الفساد التي تشنها الحكومة والتي وجدت تضامنا شعبيا يكاد يكون اجماعيا لم تتحول بالنسبة لأغلبية التونسيين إلى سياسة عامة ناجحة ،فكأنهم يقولون بأنهم يريدون المزيد منها وتأكيد نتائجها .
ماذا ينتظر التونسي من الحكومة ؟
القراء الذين يتابعون الباروميتر الشهري قد تفطنوا منذ أشهر إلى الصعود المستمر والقوي لمطلب مكافحة الفساد المالي والإداري عند عموم التونسيين إلى أن أصبح منذ ماي الفارط أولوية الأوليات وبلغ ذروته في شهر جوان بـ%28.6 لكي يتراجع في جويلية إلى %20.2 ربّما لان هنالك إحساسا بأن الحكومة بدأت تخطو خطوات جدية في هذا المجال وبالتالي لم يعد هنالك من موجب للتركيز القوي جدا على هذه الأولوية رغم بقائها في صدارة الترتيب أمام التشغيل والبطالة ومكافحة الإرهاب
سوسيولوجيا مكافحة الفساد
سبق وأن قلنا بأن مكافحة الفساد هي أولوية الأوليات عند عموم التونسيين ولكن ككل الأولويات فالتونسيون ليسوا سواء أمامها ولبعضهم أولويات أولى منها رغم إقرار الجميع بضرورة مكافحة الفساد..
على المستوى الجهوي نجد أن ولايات الوسط الشرقي (سوسة والمنستير والمهدية) وصفاقس هي في قائمة الترتيب في هذه الأولوية بـ%24.1 للأولى و%23.8 للثانية بينما تتراجع هذه الأولوية إلى حدودها الدنيا في ولايات الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقيروان والقصرين) والجنوب الغربي (قفصة وقبلي وتوزر) بنسبة %15.8 لها جميعا ..
الرجال هم أكثر حساسية بكثير من النساء في مسالة مكافحة الفساد : %26 مقابل %13.9 وكذا الشأن اجتماعيا فالطبقة المرفهة تجعل منها أولوية أولوياتها بـ%28.6 بينما تتراجع هذه النسبة عند الطبقة الشعبية إلى %17.5..
مكافحة الفساد لا تحتل المرتبة الأولى عند الشباب فبالنسبة لشريحة 18-25 سنة تأتي مكافحة الفساد في المرتبة الثانية ب%16.2 وعند شريحة 26-30 سنة تأتي هذه الأولية كذلك في المرتبة الثانية بـ%15.9..
مكافحة الفساد تصبح الأولوية الأولى وبكل وضوح عند الكهول بـ%23.7 في فئة 41-50 سنة و%25.4 عند الخمسينين..
وهذه الأولوية تتطور طردا مع المستوى التعليمي كذلك فهي في حدود %13 عند الأميين و%21.1 عند أصحاب مستوى التعليم الجامعي ..
فمكافحة الفساد المالي والإداري هي الأولية المطلقة لرجل من ولايات الساحل أو صفاقس كهل (أربعيني أو خمسيني ) من الطبقة المرفهة و ذي مستوى جامعي ..بينما يكون الأبعد نسبيا عن هذه الأولية امرأة شابة أمية من إحدى ولايات الجنوب ومن الطبقة الشعبية .
نحن نتحدث عن نماذج لا عن أشخاص بعينهم بطبيعة الحال ..وهذه النماذج لا تؤخذ على اطلاقيتها بل فقط لإضفاء بعض الواقعية على أولويات التونسيين
ثقة التونسيين في المؤسسات والهياكل
يمكن أن نقول بان ثقة التونسي قد ازدادت من خلال هذا الباروميتر لشهر جويلية في كل مؤسسات وهياكل بلاده..
فالجيش دوما في الطليعة وبنسبة تكاد تضاهي الإجماع (%98) منها %87 ثقة كبيرة و%11 ثقة نسبية ..
ولقد ازدادت الثقة في الشرطة بخمس نقاط لتصبح في حدود %83 ولكن الثقة الكبيرة لا تتجاوز النصف (%47) والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في المرتبة الثالثة بـ%74 وفي هذا دلالة قوية على نجاح هيئة شوقي الطبيب في تحسيس عموم التونسيين بخطورة هذه الآفة على بلادنا .
أكثر الهيئات والمؤسسات تقدما خلال هذا الشهر هي الحكومة بـ17 نقطة ورئاسة الجمهورية بـ13 نقطة ..وحتى الإدارة العمومية قد استفادت من هذا المناخ العام فربحت ثماني نقاط ..
ورغم النمو الطفيف للثقة في مجلس نواب الشعب وفي الأحزاب السياسية في مؤخرة الترتيب بـ%34 و%20..
والإشكال الذي نردده للمرة الألف أن وحدهم %3 من التونسيين يثقون كثيرا في الأحزاب السياسية وهذا يهدد الانتقال الديمقراطي في العمق لأنه لا ديمقراطية دون أحزاب قوية تحظى بالحدّ الأدنى من ثقة المواطنين..
وهنا مازلنا بعيدين كل البعد عن الحدّ الأدنى الديمقراطي المطلوب ..