حمل كتاب «كنت في الرقة : هارب من الدولة الإسلامية» لكاتبه الهادي يحمد، الصحفي التونسي المختص في الجماعات الإسلامية، الكثير من المعطيات الهامة لمعرفة كيف يدار تنظيم الدولة «داعش» وبين الفرق بين الهالة الإعلامية التي يروجها التنظيم عن نفسه وواقعه الذي يكشف «اهتراء» داخلي وبروز أزمات عقائدية وتنظيمية تهدم أسسه، وتنسف شرعية قادته بل و«تكفرهم» من قبل مجموعة «راديكالية» صلب التنظيم تتسع رقعتها، مع الخسائر والهزائم التي يتكبدها.
المسألة الفقهية في «داعش» الإرهابي
هذا الكتاب نقل صورة واقعية عن تأصيل نظري لصراع بين مجموعتين في التنظيم الإرهابي، أولى تعرف اصطلاحا عبر بـ«البنعلية» نسبة إلى تركي بن علي، والثاني يعرف بـ«الحازمية» نسبة لأحمد بن عمر الحازمي، التي انتشرت في صفوف «المقاتلين الأجانب في التنظيم»، وتقوم بالأساس على عدم العذر بالجهل في التكفير وإقامة الحدود على عوام المسلمين.
فريقان يختلف تأصيلهما الشرعي للتكفير، ولكن ما دفعهما الى شبه الصدام الذي عبر عنه بشكل صريح وعلني من قبل التنظيم الإرهابي في إصدار مرئي أنتج، إعلام الرقة معنونًا بـ«القبض على خلية من الغلاة» نسب إليهم: تكفير عموم الناس الذين سموهم أي عوام المسلمين، وتكفير كل قادة «داعش» وجنودها، كما أنها تتبنى مبدأ التكفير بالمعاصي.
هذا الإعلان الرسمي، كان الأول من نوعه، لكن الكتاب «كنت في الرقة» يكشف بإطناب في فصله - خاصة «دولة الملثمين» و«قطع الدومينو»- عن تعدد حالة التصفية التي يتعرض لها المقاتلون الأجانب لإتباعهم نهج عدم العذر بالجهل، كما يكشف عن حالة من الغضب والتململ في التنظيم بسبب ما يعتبرنه «لينا» وتساهلا مع السكان الأصليين للمدن الخاضعة لسيطرة التنظيم الإرهابي.
الراديكاليون في التنظيم
هذا النهج الفكري الذي وبشكل كاريكاتوري، يعتبر أكثر مغالاة وراديكالية من الفكر «الداعشي» يجد له انتشار في صفوف التونسيين من ابناء التنظيم الإرهابي، وهذا ما بينه الكتاب الذي أتى على ذكر عملية تصفية أبي جعفر الحطاب التونسي، وهو احد الفقهاء الشرعيين للتنظيم وكان رئيسًا لديوان القضاء بسبب موقفه من عدم العذر بالجهل في الشرك الأكبر وتكفير العاذر، ومن قبله اعدم أبو عمر الكويتي لذات الأمر.
تفصيل قد يغفل البعض عن أهميته، لما في المسائل التأصيلية من أهمية في فكر الجماعات التكفيرية، فعمليا الذهاب بالتكفير الى أقصاه، اي تكفير كل المسلمين من القاعدين عن القتال، سيؤدي الى ظهور جماعات جديدة تستهدف الجميع دون استثناءات، و يبدو ان التنظيم الذي سيخلف «داعش» سينتهج هذه المقاربة.
فالجماعات تتحرك وفق نظريات تجعل من المتن الشرعي مصدرها، وتاريخيا منذ طرح عبد الله عزام نظرية «الجهاد الإسلامي العالمي» والانطلاق بـ«العدو القريب» وليس «العدو البعيد» الذي انتهجته القاعدة، وهي التي تبنت نظرية عزام قبل ان تعدلها بجعل جهاد العدو البعيد / أمريكا والدول الغربية، أولى من جهاد العدو القريب وهم حكام الدول الإسلامية.
ولتحقيق هذا استند تنظيم القاعدة إلى مرتكزات فكرية فقهية، كمفهوم التترس، والعذر بالجهل، ومذهب إيجاب قتال غير المسلمين ، وغزو العالم لنشر الدعوة، وهي مرتكزات لم تصمد في المعالم الفقهية للجيل الثالث في القاعدة، الذي كان له تصور مبني، على تكفير أعوان الحاكم.
التوسع في التكفير
مع «داعش» التي كانت في بدايتها تستند الى ذات تصور القاعدة، قبل ان تعدل في حربها لتصبح ضد العدو القريب الذي يشمل لديها «الأنظمة العربية والشيعة» لتنتقل بالفكر التكفيري الى مربع جديد، كان ينظر إليه الى وقت قريب على انه الأكثر غلوا.
مع حلول السنة الثانية لصعود البغدادي على منبر المسجد بمدينة الموصل وإعلانه عن «الخلافة»، توسعت «داعش» في التكفير، وفي القتل بناء على التوسع في التكفير وفق منهج يقوم أساساً على رفض المخالف رفضاً تاماً قاطعاً، واعتباره خارجا عن «الدولة»، ومن ثم استحلال دمه وماله، وهو ما يُعرف بالمذهب الحروريّ القائم على تكفير مرتكب الكبائر.
هذا الغلو والتكفير ينظر إليه من قبل منتسبين للتنظيم الارهابي على انه «لين» مع عوام المسلمين، خاصة في الأراضي الخاضعة للتنظيم، فهم يعتبرون ان الحجة قامت ليس فقط على من هم في الأراضي الخاضعة وإنما كل المسلمين، أي أن من لا يقاتل ويطبق الحدود والشريعة كما هي عليه، كافر ولا يعذر بجهله، في المعاصي وليس الكبائر فقط.
وهنا انطلق الخلاف بين الفريقين في التنظيم، وهو بالأساس حول مبدأ «العذر بالجهل» قبل ان يتطور الأمر ليصبح تكفير قادة التنظيم وشرعييّه الذين يدافعون عن مبدأ العذر بالجهل في المعاصي وليس الكبائر.
معالم الجماعة التكفيرية الجديدة
أهمية كتاب الصحفي الهادي يحمد تكمن في كشفه عبر رواية شاهده، عن المعالم الفكرية للجماعة الجديدة التي ستخلف «داعش» كنموذج جديد، جماعة تعتبر ان عوام المسلمين السنة، كفرة ودمهم محلل لتقاعسهم عن الجهاد، جماعة قوامها سيكون المقاتلين الأجانب ومنظريهم الذين عايشوا فشل «داعش» وانهيارها.
انهيار يعتبرون سببه الأساسي التساهل واللين من قبل قادة التنظيم مع السكان المحليين، ومع الجهاز الأمني في التنظيم وانحرافه، وهيمنة «الجشع» لدى المقاتلين، جماعة يشير الكتاب إلى إن التونسيين سيكونون عمودها الفقري بسبب انتساب جلهم الى «الحازمية» التي لا تعذر بالجهل بل وتعتبر ان ما تعيشه «الامة» سببه قعود العوام عن الجهاد ونصرة الدين.
كنت في الرقة: هارب من الدولة الإسلامية:
مسار إرهابي تونسي انضم لـ«داعش» الإرهابي وانسلخ عنه
في كتابه الجديد، يرصد الإعلامي والكاتب الهادي يحمد مسار إرهابي تونسي، انتسب الى «داعش» وقاتل في صفوفه، قبل ان يختار الهرب من الأراضي الخاضعة لسيطرة التنظيم، ويتبنى فكرا يكفر قادة داعش ويعتبرهم مقصرين في تطبيق الشريعة.
مسار الارهابي الذي ولد في ألمانيا قبل ان يعود مع اهله الى تونس وبعد الثورة بات من المحسوبين على مجموعة الخطيب الادريسي قبل ان يفر الى سوريا مرورا بليبيا، رحلة يسردها كتاب « كنت في الرقة - هارب من الدولة الإسلامية». كتاب قال صاحبه انه شهادة لإرهابي تونسي كشف فيها النقاب عن حياة في الرقة وعن الهواجس الداخلية للمنتسبين لتنظيم «داعش»، قال عنه الهادي يحمد انه فر من تنظيم «داعش» ليس بمنطق التوبة وإنما لأسباب أخرى مبينا أنه التقاه وحاوره.
الكتاب ينطلق من آخر يوم للإرهابي محمد الفاهم في مدينة الرقة السورية وخطته للفرار منها، ليعود في بقية الفصول ليروي مراحل الرحلة من تونس إلى سوريا، التي ينقل الكتاب حقيقة الأوضاع فيها، وكيف تدار. وأشار هادي يحمد المؤتمر في الصحفي المخصص لتقديم الكتاب الى أن الشخصية المحورية متورطة في قضية ذات صبغة إرهابية جدت أحداثها في منطقة وادي الليل بالعاصمة مشددا على أن الفاهم لم يتواجد داخل المنزل الذي تم بداخله محاصرة ارهابيين بل كان من ضمن الارهابيين الذين ينسقون معه.
وقال الكاتب هادي يحمد ان الكتاب ذو جنس إشكالي وليس كتاب بحثي بالمعنى التقليدي ولا ينطلق من معطيات ومؤشرات كلاسيكية. وأبرز يحمد أن الكتاب انطلق من بورتري بحثي وهو نموذج من رحلة آلاف التونسيين الى سوريا للانضمام الى تنظيم «داعش الإرهابي».
وفي ما يخص استعماله مصطلحات عديدة على غرار «الدولة الإسلامية» و «جهاديين» شدد يحمد على ان اعتماد هذه المصطلحات مقصود وليس للتشجيع على ما يسمى بالجهاد في سوريا قائلا ان هذه المصطلحات معتمدة في وسائل إعلام دولية.
وأبرز أن الكتاب ليسا مبنيا على موقف إيديولوجي بل يهدف الى فهم ظاهرة سفر الشباب الى مناطق النزاع للانضمام الى التنظمات الإرهابية.