نظّم المركز الافريقي لتدريب الصحفيين والاتصاليين معية دار محمد علي الحامي للنشر منذ أسبوع حلقة نقاش حول الفقيد الهاشمي الطرودي وصحافة الرأي كتمهيد لتنظيم ندوة سنوية حول صحافة الرأي في تونس وقد اخترنا أن ننشر الدراسة العلمية الهامة التي قدّمها الجامعي أمين بن مسعود نظرا لدقتها وعمقها في تشخيص التجربة الثرية للفقيد الراحل في مجال صحافة الرأي ببلادنا .
قد تكون كتابة الرأي الصحفي واحدة من أعقد المهام الإعلامية وأخطرها وأكثرها استدرارا واستحضارا للمسؤولية التحريرية ولأخلاقيات العمل الصحفي , فبالإضافة إلى ضوابط «الرأي» التي حدّدتها المدارس الصحفية سواء منها الفرنسية أو الانقلوسكسونية والكامنة في استجلاء الآنيات واستنطاق المسكوت والحجاجية في الإقرار واستشراف الأوضاع القادمة انطلاقا من استقراء الأوضاع القائمة , فإنّ إكراهات الواقع الصحفي وكثرة المتدخلين في المنظومة الصحفية وطبيعة العلاقة بين الفاعل الرسمي والفاعلين الإعلاميين تجعل من كتابة التعاليق والتحاليل والبطاقة والعمود وحتّى الكاريكاتير مهمة شاقة يمكن وصفها بمعضلة المشي فوق حقول الألغام..
وفي السياق الإعلامي التونسي – سنكتفي هنا بمرحلة الاستقلال إلى يوم الناس هذا - مثّل «الرأي» الصحفيّ –مع بعض الاستثناءات- متلازمة الوظائف مع الفاعل الرسميّ سواء دعاية له أو دعاية مضادة لخصومه السياسيين والنقابيين .
اصطبغت كتابة الرأي في العناوين الصحفية التونسية بطابع «الإقرار» والإسناد والمسايرة للفاعل الرسميّ , وذلك بالتأسيس على وظائفيّة الإعلام وفق التمثل الرسمي ففي فترة الرئيس بورقيبة كان الإعلام – المطبوع والمسموع والمرئي- يمثّل دعامة السلطة في مجهودها لبناء دولة الاستقلال ولدعم الخيارات الاقتصادية والاجتماعية للفاعل الرسميّ.
أما في مرحلة السبعينات والثمانينات التي شهدت انبثاق حركات سياسية ومدنية معارضة وعلى طول فترة بن علي شكّلت معظم الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيّة الذراع الإعلامي للتسويق لسياسات النظام ولضرب الأصوات المعارضة في الداخل والخارج..
وفيما شكلت مقولة الاستقلالية التحريرية بين الفاعل الرسمي والإعلام المطلب الأبرز لما بعد ثورة 14 جانفي , فإنّ السواد الأعظم لمقالات الرأي المرصودة في الصحف الورقية الصادرة إما بعد الثورة أو المتواصلة معها , لا تزال حبيسة الانطباعات والأحكام المعيارية القائمة على الاعتبارات الإيديولوجية أو التموقع صلب منظومة الحكم و /أو المعارضة.
في مثل هذه السياقات المعرفية والتاريخية تصبح دراسة مقالات «الرأي» لدى المرحوم الهاشمي الطرودي أمرا ذا أهمية علمية بالغة , لا فقط لأنّ الطرودي مثّل الشذرات القليلة من الصحفيين التونسيين الذين اختاروا مسلكية «التساؤل والمساءلة» في مقالاتهم التحليلية والتعليقية فيما اختارت غالبية الأقلام الدعاية للفاعل الرسميّ أو الهجرة الإعلامية نحو المناطق الآمنة الكامنة في «التقارير الإخبارية الرتيبة» وإنما وهذا هو الأهمّ لأنّ «الشيخ» – كما يحبّذ أهل المهنة تلقيبه- انحاز وعلى مدى أكثر من أربعين عاما لميثاقية المهنة الإعلاميّة التي تفرض على الصحفيّ «إنارة الرأي العامّ والتقييم الهادئ والمتعقّل للأوضاع الراهنة» بعيدا عن الديماغوجيا أو انحيازات الايديولوجيا.
فماهي أبرز ملامح مقالة الرأي لدى الهاشمي الطرودي, وإلى أي مدى ساهمت هذه المقالات في إثراء النقاش العمومي حول القضايا العامة وبالتالي في إرساء اللبنات البكر لبراديغم المجال العمومي والديمقراطي والتعددي , وماهي أبرز مراحل التطوّر والنضج التي طبعت مدونة مقالات الرأي ( في مستويي المعنى والمبنى ) لدى الطرودي؟ والأهم من كل ما سبق كامن في التساؤل حول إمكانيات استحالة «الرأي» من موقف وتوصيف وتشخيص وتقييم إلى مقولات تفسيرية كبرى ذات مقدرة تحليلية معتبرة لشواهد الماضي وسياقات الراهن واستشراف المستقبل؟
من نافلة القول في هذا الصدّد أنّ البحث اكتفى بالعينة المرصودة في الكتابين الصادرين عن دار محمد علي للنشر واللذين يحملان عنواني ( المشهد السياسي بتونس في البحث عن كتلة تاريخية جديدة ) و(الإسلام السياسي في تونس هل من خصوصيّة ؟) مع ما تحمله محدودية العينة – على أهميتها العلمية والبحثية- بدورها من محدودية في النتائج المستخلصة.
حيث يزعم البحث بعد جرد للعينة المرصودة ومستفيدا من تقنيات تحليل المضمون في مستوى أول وتحليل الخطاب في مستوى ثان أنّ تجربة مقالات الرأي لدى الطرودي مرت بمرحلتين كبيرتين:
• المرحلة الأولى هي مرحلة «الطرودي الناقل الناقد» للآنية بما تعنيه هذه الثنائية من قدرة على التشخيص والتقييم للأحداث في سياقاتها الزمكانية وسوسيولوجيا الفاعل السياسي.
• المرحلة الثانية وهي مرحلة الطرودي مؤصلا للأفكار والمقولات التفسيرية الكبرى وفق ثنائية «الانطلاق من التأريخ والكتابة للتاريخ»..
غير انّه من الجدير بالذكر أنّ هذا التحقيب لا يعني التقسيم الهيكلي أو البتر المعرفي صلب التجربة التحريرية للطرودي يحيل من حيث لا نبتغي إلى المقارنة بين مختلفين أو متغيرين اثنين بقدر ما هو إقرار بقيمة التراكم الابستيمي والاحترافي والمهني الذي يمثّل هوية الكاتب وبصمة التطوّر في توليد المعنى وتأصيل المبنى , وما جدوى البحث إلا رصد هذا الاختلاف وبيان ملامحه وارتساماته...
I – الهاشمي الطرودي ناقدا للأحداث : ( من الآنية وإليها) :
بالإمكان وضع مرحلة الكتابة خلال عقديْ السبعينات والثمانينات ضمن الإطار العامّ لهذه الفترة , ويبدو انّ مقولة «التعليق الحجاجي le commentaire argumentatif» و«التحليل الاستدلالي l’analyse démonstrative» حكمت مقالات الرأي لدى الطرودي على مدى العينة المرصودة في المؤلفين.
ودون تعمّق في الفرق بين الجنسين الصحفيين صلب صحافة الرأي (مقالة التعليق ومقالة التحليل) قد يحوّل الدراسة إلى درس في المادة , فإنّ إطلالة محدودة على النوعين قادرة على بيان الفرق حيث انّ التعليق يمثّل الموقف والتشخيص والتقييم الذي يعبّر عنه الصحفي منذ الوهلة الأولى للمقالة ومن ثمة يستدعي المنظومة الحجاجية للدفاع عنه , في حين أنّ التحليل يمثّل استدعاء الوقائع والحقائق والإثباتات للاستدلال على صحة رأي الصحفي والذي يتمّ الوصول إليه كاستنتاج مدروس يؤثث القائم بالرأي نظامه الداخلي من حيث اختيار المقدمات واستخلاص النتائج.
صحيح أنّ مقالات الرأي المرصودة في العينة يصعب تنزيلها ضمن هذا التبويب الأكاديمي , حيث اختلط في الكثير من المرات مسار التعليق بمنهاج التحليل والعكس ,إلا أنّ الطرودي كان وفيا في معظم الحالات للتلازمية القائمة بين التعليق والمحاججة من جهة ونظام البرهنة عند الاستدلال من جهة ثانية.
ولئن كان انحياز الكاتب المبدئي لأفكاره ورؤاه ومقارباته يجسّد حقّ الصحفي على الجمهور في صحافة الرأي , فلابدّ له من أن يردف هذه الاقرارات بمنظومة دفاع ومحاججة وبرهنة وهو حقّ الجمهور على الصحفي , وإلا فيكون السقوط في الانطباع والسفسطة والتي عادة ما تنتهي بقطع رباط «العقد الميثاقي والأخلاقي» بين الكاتب والجمهور.
تحليل المضمون مكننا في هذا المستوى من تبيان وجود محترم للحجج في مقالات الرأي قد يفضي إلى الإقرار بأنّ الرأي لدى الطرودي استقراء في الوقائع والقرائن وقراءة للمسألة من وجوهها العديدة ومحاججة رصينة .
تتميّز منظومة الرأي لدى الهامشي الطرودي في هذا المستوى بأربع سمات أساسية نجملها فيما يلي:
• القطع مع خطاب «القطع» والنهايات : فالكتابة هي مسار من الفرضيات المحتملة إلى الفرضية المرجحة (أو النتائج النسبية المحتملة) , بمعنى أنّ الرأي في معظم المقالات التحليلية ضمن العينة المرصودة , يبدأ من تساؤل إشكاليّ يقبل عدّة فرضيات باعتبارها إجابات مقدمة عن سؤال الإشكالية , يتكفّل الطرودي باستبعادها واحدة تلو الأخرى ليبقي على الفرضية الأرجح التي يبين مقدرتها التفسيرية للواقع لتستحيل هي «الإجابة النسبية المرجحة» عن سؤال الإشكاليّة.
• الجمع بين «النقل والنقد» : ذلك انّ معظم مقالات الرأي تحتوي على نسبة معتبرة من الأخبار الحصرية الموثوقة التي يقدّمها الطرودي للرأي العام , ساحبا بذلك الرأي من الوظائفية التعليقية والإقرارية إلى مهام جديدة تكمن في الإخبار والنقل – انطلاقا من شبكة المصادر التي يتمتع بها المرحوم- وهو بها يكسر الصورة الرتيبة والمعتادة للقائم بالرأي كمعلّق على أحداث معروفة , ليستبدلها ب»الإعلامي الناقل للمعلومة الحصرية والناقد لمسار الأحداث ككلّ».
• التنسيب والتواضع الصحفيّ : على الرغم من البناء المحكم لمنظومة الرأي لدى الطرودي إلا أنّ سمة التنسيب في الإقرارات والأحكام متواترة بشكل واضح , حيث تطغى على المقالات الموجهات التحريرية التشكيكية والتنسيبية على غرار «يبدو , من الممكن , لعلّ , قد...» وهي عبارات تدلّ على مقاربة البحث المتواصل عن الحقيقة دون ادعاء لامتلاكها أو لاحتكارها دون القراءات الأخرى.
منهجية التنسيب تتشكل بجلاء أيضا في نأي الطرودي – إلا في حالات نادرة جدا- عن الكتابة بأسلوب المتكلم الفردي أو الجماعي « أنا أعتبر أنا أقول , في تقديري وفق قراءتي « واعتماده بشكل شبه تام على الضمائر الغائبة «من المرجح أن يكون كذا , من المقرر أن يحصل كذا»..
• التلازمية بين التعليق والحجاج : وهو ما اشرنا إليه آنفا, حيث أنّ المحاججة مثلت أسّ التعليق لدى الطرودي إذ حرض الكاتب على استخدام مجموعة من الحجج على غرار الحجج ذات السمات العقلانية (السبب والنتيجة , الاتجاه , التعدية ) والحجج ذات الأثر الاستدراكي ( المثال ) والحجج ذات الوزن الشهائديّ (المرجع).
مثلت هذه الرباعية العمود الفقري لمقالات الرأي لدى الطرودي طيلة فترة السبعينات والثمانينات لتتطوّر بشكل ملحوظ الكتابة شكلا ومضمونا ( محافظا على ذات المسارات الفكرية والسياسية التي اختارها الطرودي لنفسه مسلكية معرفية ونضالية ) في بدايات التسعينات وإلى حين السنوات الأولى من عمر ما اصطلح على تسميتها بالثورة التونسية. , ولينتقل بذلك الطرودي من صحافة الرأي إلى صناعته.
II – الطرودي صانعا للرأي : بعيدا عن «الزمن الصحفي» قريبا من «زمن التاريخ»...
من المفيد علميا الإشارة إلى أنّ شكل مقالات الهاشمي الطرودي مع السنوات الأولى لعقد التسعينات وبشكل أساسي عقب الثورة , اتخذ شكلا أكثر عمقا من المقالات السابقة , حتّى وإن حافظ الكاتب على الشكل والهيكل العام للمقالة فإنّ المقاربة باتت أكثر اتساعا وأكثر غوصا في غمار القضايا.
ومع هذا الطور من الكتابة الصحفية , بات «تحليل المضمون» عاجزا عن الإحاطة بكنه الكتابة لدى الطرودي , ذلك انّ التتبع الكمّي للوحدات الدلالية يبقى قليل الجدوى وقاصر العدّة العلمية لاستجلاء منظومات التمثّل وميكانيزمات التفكير والخرائط الإدراكية للقائمين بالرأي الصحفيّ وهو ما دفع بالبحث إلى الاستنجاد بـ«تحليل الخطاب» لمزيد تقصي مقالات الكاتب.
وبعد التقصّي لعينة من المقالات وفق تقنيات تحليل الخطاب بالإمكان إجمال الملاحظات في النقاط التالية:
1 – تواتر «التناص» في النصّ الصحفي : يعرّف التناص ب»تداخل مختلف النصوص» في النص الواحد , حيث بالإمكان تعريفه بأنه «تشكيل نص جديد من نصوص سابقة وخلاصة لنصوص تماهت فيما بينها فلم يبق منها إلاّ الأثر، ولا يمكن للقارئ النموذجي إلا أن يكتشف الأصل، فهو الدّخول في علاقة مع نصوص بطرق مختلفة «يتفاعل بواسطتها النص مع الماضي والحاضر والمستقبل وتفاعله مع القراء والنصوص الأخرى»...
وهو بالضبط ما رصده البحث في تداخل محددات النص الفلسفي , بالنص القانوني , بالنصوص السياسيّة, والاقتصادية والدينية والأدبية ضمن النص الصحفي للطرودي , الأمر الذي أعطى لهذه المقالات نفسا جديدا وهوية كتابية بعيدة عن رتابة المعطيات التحليلية.
2 – الزمن الاستراتيجي عوضا عن «الزمن الآني» : باتت مقالات الطرودي مقالات للتاريخ أكثر منها مقالات للتأريخ, حيث زالت تقريبا العلاقة التلازمية بين الخبر والتفاعل مع الحدث ضمن حدوده الزمكانية وتأثيره في الرأي العام , ليستعاض بالعلاقة بين الخبر والمقولات التفسيرية الكبرى وبالنماذج التحليلية وبالبراديغمات الفكرية ذات القدرة على فهم الماضي واستقراء الحاضر واستشراف المستقبل , ولئن كان معظم من يكتب الرأي ضمن السياق المحلي أو الإقليمي الأوسع يدورون حول الخبر باعتباره مرجعية الرأي , فإنّ الطرودي بلغ -وفي السنوات الأولى العاقبة للثورة التونسية- نقطة صياغة المقولات التحليلية الكبرى والتي بمقتضاها يتحوّل الخبر إلى عينة أو مثال ضمن المنوال التفسيري ( على غرار المقولة التحليلية «الاستثناء التونسي» وهي مقولة تفسّر التفرّد التونسي في حقول العمل المدني والسياسي وفي الفعل الحضاري والثقافيّ والمقاصدية الدينية)..
3 – صناعة العبارات الجديدة : بلغ الطرودي مستوى اجتراح المصطلحات والعبارات الجديدة سواء لتشخيص الحالة السياسية في البلاد أو لتفسير أوضاعها , وهو مستوى علاوة على ارتباطه بالبراديغمات التحليلية إلا أنه أيضا يكشف عن قدرة لدى الكاتب على اختيار العبارات الجديدة ذات القدرة التلخيصية للواقع وعلى تجاوز المصطلحات المعتادة والمجترة , ( على شاكلة عبارة «الدولة /الغنيمة » – «العصبية السياسية الغالبة» – «التمكين الناعم»..
4 - صياغة المشاريع الحضارية : مع بدايات الثورة التونسية انتقل الطرودي من معالجة القضايا الراهنة التي تمسّ الفاعل السياسي وتهمّ الرأي العام إلى مناقشة القضايا الحضارية والسعي إلى التأسيس والتأصيل لمقولات جديدة عن العقل الإسلامي ورهانات التجديد ومعوقات الحداثة وسبل تجاوز العطب الثقافي المولّد لنفس الأزمات وهي بالفعل ما رصده البحث في سباعيّة «الاستثناء التونسي» الصادرة في جريدة المغرب من عدد 17 جانفي 2015 إلى عدد 25 جانفي من نفس السنة.
غير انّ كلّ ما سبق من رصد وتتبّع لمسيرة الكاتب الهامشي الطرودي تبقى دائما دون المطلوب ما لم تردف بمبحث خاص بأخلاقيات كتابة الرأي لدى الطرودي وهو ما سنعمل على تفصيله.
III- أخلاقيات العمل الصحفي في مقالات الرأي لدى الطرودي:
لئن تمّ تعريف أخلاقيات الصحافة على «انّها مجموعة القيم والمعايير المرتبطة بمهنة الصحافة التي يلتزم بها الصحفيون أثناء عملية انتقاء الأخبار وآليات استقائها ونشرها والتعليق عليها وتحليلها» فإنّ الراصد لآراء المرحوم الهاشمي الطرودي يكاد يسلّم باستبطان وتملّك الكاتب لهذه المحددات الأخلاقية بمعنى Deontologie لصحافة الرأي.
كثيرا ما يستند الصحفيون إلى أخلاقيات الصحافة في الجوانب الإخبارية للعمل الصحفيّ حيث يسعى غالبية الإعلاميين إلى استيفاء المعطى الإخباري جوانبه الأهمّ من المحددات الأخلاقية من تعدد في المصادر وتوازن في وجهات النظر , وتقديم المصادر الأساسية على المصادر الثانوية والهامشية , وعدم تجيير وتوظيف المقالات الإخبارية لتصفية الحسابات السياسية والإيديولوجية, في مقابل عدم إيلاء صحافة الرأي المكانة المستحقة ضمن منظومة أخلاقيات العمل الصحفيّ.
وقد يكون للفهم المغلوط للمقولة التأسيسية للعمل الصحفي (الخبر مقدّس والتعليق حرّ) دور في تمثّل بعض الصحفيين الرأي على أنّه مساحة مفتوحة لإبداء الإقرار دون اية محددات الأمر الذي صيّر التعاليق الصحفية والأعمدة إلى فضاءات إعلاميّة لتصفية الحسابات وللاغتيال المعنويّ وللإشهار المقنّع وهو ما حاد بالرسالة الإعلامية عن مضمونها ومقاصدها.
الاطلاع على مقالات الهامشي الطرودي المبثوثة في الكتابين تكشف كما أسلفنا عن تملّك لأخلاقيات التعليق والتحليل والمتمثلة في 4 معايير أخلاقية صحفية وهي على التوالي :
أ – التعليق على الخبر وليس على الإشاعات أو أنصاف الحقائق : من واجب الصحفي عند الإدلاء بالرأي أن يقوم باستيفاء شامل لحيثيات الخبر حتّى يكون الرأي مبنيا على وقائع صحيحة وأحداث مستوفاة الجوانب والملابسات ذلك انّ من شروط الرأي أن تكون المقالة التعليقية والتحليلية حول معطيات إخبارية منشورة في المؤسسة الإعلامية ذاتها.
هنا بالإمكان التأكيد بأنّ كافة مقالات العيّنة استوفت هذا الشرط الأخلاقيّ حيث كان التعليق والتحليل منصبا حول أخبار صحيحة وصريحة ولم ترتبط أية مقالة بإشاعة أو معطى إخباري غير موثوق الصحّة , بل إنّ الكاتب وفي الكثير من الأحيان – كما أسلفنا- كان يستوفي النقل بذاته عبر مصادره الخاصّة قبل الإدلاء بالرأي.
ب - عدم تشويه الخصوم وأصحاب الرؤى المختلفة: قد تكون من أسوإ المثالب التي تنال من قيمة مقالة الرأي ومن صاحبها أيضا تشويه المتباينين في الطرح والمقاربة عبر القذف والسباب والنيل من الأعراض وكيل الاتهامات جزافا. والمتمعن في كافة مقالات الرأي لدى الطرودي يلاحظ في هذا السياق أمرين مهمّين :
• أنّ الخصوم هم جزء من مقولة نسبية الحقيقة وبالتالي فإنّ الاختلاف في المقاربات والرؤى ينبع من القراءة التعددية القائمة على مقولة «رأيي صواب يحتمل الخطإ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» وهو ما استدرّ في الكتابة تنسيبا في الإقرارات والأحكام ونايا كاملا عن أيّ تشويه.
• أنّ الكتابة لدى الطرودي خالية من «المدونة» التشويهية لنظامي بورقيبة وبن علي للخصوم السياسيين أو لمدونة خطاب الكراهية الذي ساد المشهد السياسي التونسي عقب الثورة حيث أنّه ألزم بعدم الخلط بين التوصيف والتقديم عند ذكر الفاعلين السياسيين أو
الاجتماعيين.
ج - تقديم الرأي لا الانطباع : يعّرف الرأي الصحفي على أنّه «الرؤية العقلية (لغة) والموقف الإعلامي (اصطلاحا) الذي تعبّر عنه مؤسسة صحفية و/ أو صحفي حيال قضية مستجدة» فلا يكون الرأي المقدّم رأيا صحفيا معتبرا إلا إذا ارتبط بالآنية من جهة وبمنظوم دفاع إما محاججة أو برهنة عن الإقرار المقدّم .
وهو ما يضعنا في استحقاق التفرقة بين الانطباع الذي قد يتسلل في الكثير من الحالات إلى المنابر الإعلاميّة من جهة أولى والرأي الصحفي من جهة ثانية.
فلئن كان الانطباع مرتبطا بالحسّ والانفعاليّة وفي بعض الاحيان بالعصبيات الإيديولوجيّة فإنّ الرأي في التصاق بالقراءة المتأنية والاستقراء الشامل للمشهد وباستنطاق مختلف الأطراف ومن ثمّة التأصيل بالموقف والحكم.
ولئن كان الانطباع أيضا يتجسّد في شكل مقولة واحدة تكون خطّ الدفاع الأول والاخير وكينونة الموقف لدى صاحبها فإنّ الرأي يمثّل استدعاء الحجج واستدرار البرهنة لدعم الإقرار , الأمر الذي يعطي صبغة «الهوى» و»الهواية» للأوّل ويمنح ميسم البقاء والاستقرار والإقناع وتكوين الرأي للثاني.
والحقيقة أنّ المواقف المعروضة في العينة كانت بمنأى عن أعراض الانطباع وعن الانفعالية السياسوية.
د - الاستشهاد في مقابل اختلاس الآراء : قد تكون من السلبيات المشينة للرأي الصحفي سرقة الآراء ومن ثمة نسبتها إلى الصحفي الكاتب دون ذكر للمصدر.
وهو أمر نكاد نتلمسه اليوم بشكل شبه يومي مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي حيث نعثر في الكثير من الأحيان على صحفيين يسرقون ويختلسون آراء غيرهم دون ذكر أنها منقولة عن مصدر آخر.
وبالنسبة للكاتب المرحوم الهاشمي الطرودي فإنّ آراءه اتسمت بالفرادة والسبق في الطرح والمعالجة إضافة إلى تواتر الاستشهاد ونعني به ذكر المصدر عند الاستعانة بمقولات تحليلية تساعد في التفسير .
وهو ما يفسر تواتر حجة المرجع في مقالاته والتي تقضي بالاستناد إلى إقرارات تسهم في مزيد من إنارة الموضوع.
• الخاتمة:
تجربة الرأي لدى الهاشمي الطرودي لابدّ أن تقرأ ضمن 3 سياقات كبرى:
- السياق الذاتي الخاص بالكاتب الصحفيّ حيث تتطوّر المعاني والمباني وفق تراكم التجارب ونضج الأفكار والرؤى ومنسوب الحريات صلب المشهد الإعلاميّ.
- سياق الفضاء العامّ من زاوية الإضافة التي قدّمها «الشيخ» لإثارة النقاش الحجاجي حول القضايا العامّة ومدى إسهامه في تشكّل أهمّ لبنات مجال عمومي تعددي وديمقراطيّ وعقلاني ومسؤول.
- سياق صحافة الرأي في تونس وهي مدرسة وتجربة لا تزال تتلمّس خطى التأسيس , والتي يمثّل بالتأكيد المرحوم الهاشمي الطرودي أحد رواد التأصيل لصحافة الرأي ضمن مشهد إعلامي عان سابقا من ويلات تكميم الأفواه والنمطية في الموقف والأحادية في المنظور ويعرف حاليا غلبة الإخبار على الإقرار في ظلّ «تهاطل» معلوماتي يفرض السبق والتسابق المحمومين على المعطيات الإخباريّة.
ولئن اختار الكاتب والمختص في علوم الإعلام والاتصال Petersen Neville عنونة كتابه المهتم بمنظومات ونظريات الإعلام بـ «News not Views» - أخبار لا آراء – مؤصلا لفصل هيكلي تام بين المنظومتين , فإنّ تجربة الشيخ الطرودي أكّدت أنّ قيمة
«الرأي» من قيمة استيفاء النقل.
صحيح أنّ خلط الرأي بالخبر عند النقل لا يمت إلى المهنية ولأخلاقيات العمل الصحفي بأية صلة , غير أنّ الجمع بين الخبر والإقرار عند التحليل والتعليق يمثّل الأصل والقاعدة.
ذلك انّ الطرودي استوفى شروط النقل قبل الرأي في مقالات العينة , ولكنّه في المقابل أبى المزج بين آرائه وأسئلة الاستجواب في كافة حواراته الموجودة في نصّ العينة والتي أبان فيها عن توازن معقول ومعتبر يحول دون تحوّل المحاور ( كسر الواو) إلى طرف منافس أو مناظر للمحاور ( فتح الواو) على الرغم من الاختلاف الفكري والسياسي المعروف بين الطرودي وثلة من محاوريه على رأسهم قادة حركة النهضة...
الأمر الذي يدلّ عن تملّك مهني وأخلاقيّ للعمل الصحفيّ ... بات المشهد الإعلامي التونسي اليوم في أمسّ الحاجة إليه...
----------
• المراجع:
• المراجع باللغة العربية:
➢ حدّاد خالد , بورقيبة والإعلام جدلية السلطة والدعاية, مطبعة تونس قرطاج , 2008.
➢ هيكل , محمد حسنين , الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق , القاهرة , 2006 , دار الشروق.
➢ اللبان شريف درويش , الضوابط المهنية والأخلاقية والقانونية للإعلام الجديد , إصدارات مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
➢ حجاب محمد منير , الموسوعة الإعلامية , المجلد السادس , دار الفجر للنشر والتوزيع.
• المراجع باللغة الأجنبية:
L•La gardette . jean Luc martin . informer convaincre . édition Syros .
H•Hillier Krieghbaum Acts in p•Perspective: The Editorial page and news interpretation. , New York University.