والذي صوّر لنا بكل دقة وبحساسية كبيرة انعتاق شاب من العلاقات الاجتماعية التي تكبله وتهيمن عليه في كل الميادين حتى أحاسيسه واختلاجات قلبه وقد عبر الممثلان الرئيسيان مجد مستورة وريم بن مسعود بصدق كبير عن هذه الثورة العاطفية والتي شبّهها المخرج بالثورة السياسية على عفويتها تونس في 2011 وقد عرف الفيلم نجاحا كبيرا فقد تم اختياره في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين الدولي أين تحصّل مجد مستورة على الدب الذهبي لأحسن ممثل كما عرفت أفلام أخرى نجاحا كبيرا خلال هذه السنة أود الإشارة على الأقل إلى ثلاثة منها.
الشريط الأول هو «شبابك الجنة» للمخرج الشاب فارس نعناع وللمنتج الشاب حبيب عطية والذي يواصل باقتدار وكثير من الحب لهذا الميدان المليء بالأحلام العمل الهام الذي قام به والده أحمد بهاء الدين عطية وهو فيلم «شبابك الجنة» يقوم فيه الممثل لطفي العبدلي والممثلة أنيسة داود بدور البطولة وقد نجح هذا الفيلم في الدخول إلى أدق الاختلاجات والأحاسيس لتصوير المأساة التي مرت بها هذه العائلة الصغيرة ونجح إلى حد كبير في ربط هذه التجربة الذاتية المُرّة بالمخاض الكبير الذي تمر به بلادنا منذ الثورة. وقد عرف هذا الشريط نجاحا جماهيريا كبيرا إلى جانب تواجده في العديد من المهرجانات والتظاهرات العالمية الكبرى.
الشريط الثالث هو للمخرجة الشابة ليلى بوزيد «على حلّة عيني» والذي صوّر في الأشهر الأخيرة قبل الثورة وحالة الاختناق التي وصل إليها الشاب والمجتمع نظرا للكبت السياسي والقمع والاستبداد وقد ربطت المخرجة كذلك بكثير من الاقتدار والحساسية الأحلام الكبيرة بالحرية والانعتاق والثورة على السائد بتحطم الأحلام الصغيرة وقصص الحب.
الشريط الرابع والذي أريد الإشارة إليه هو «عزيز روحو» للمخرجة سنيا الشامني والذي تطرق بكثير من الجرأة لإحدى القضايا المحرمة في بلادنا وهي قضية المثلية الجنسية ويمكن لنا الحديث في هذا المقال عن أفلام عديدة كثيرة أخرى عرفت كهذه الأفلام الأربعة نجاحا جماهيريا منقطع النظير وكذلك نجاحا كبيرا في المهرجانات السينمائية العالمية.
وتنبئ هذه الأفلام ببروز جيل جديد من المخرجين السينمائيين الشبان في تونس يواصل العمل الهام والكبير الذي قام به جيل المخرجين الأوائل ولكنه يطرح عديد القضايا بأكثر جرأة وتحدّ في لغة سينمائية فيها الكثير من الاقتدار والحرفية.
وقد تمكّنت السينما التونسية وهؤلاء المخرجين الشبّان من التمتع بالحرية الكبيرة التي أوجدتها الثورة في ميدان الإبداع لإعلان ثورة سينمائية جديدة والاحتفال بربيع للسينما التونسية ولكن الذي نريد التأكيد عليه في هذا المقال أن هذا الربيع والديناميكية الهامة التي تعرفها السينما التونسية منذ سنوات ليست وليدة الصدفة أو اللحظة بل هي نتيجة لمخاض تاريخي طويل بدأ منذ الاستقلال وقد ساهمت في هذا المسار التاريخي وقامت ببنائه ثلاث عناصر هامة العنصر الأول هو أجيال كبيرة من الناس ساهمت في بناء الثقافة السينمائية والنواتات الأولى للصناعة السينمائية في بلادنا.
وهنا لا بد من الإشارة إلى ثلاثة كانوا من مشيدي السينما التونسية وهم الأستاذ الشاذلي القليبي والذي انطلقت في عهده النواتات الأولى للصناعة السينمائية كشركة الساتباك وعديد الهياكل الأخرى والهيئات والمؤسسات التي اهتمت بدعم القطاع السينمائي وتطويره وإلى جانبه لا بد كذلك من الإشارة إلى الأستاذ حمادي الصيد والذي ساهم عبر عديد المسؤوليات التي تحملها كذلك في دعم الثقافة والصناعة السينمائية وهنا لا بد من الإشارة في جيل المشيدين إلى الصديق وأخ كل السينمائيين الطاهر شريعة والذي كان وراء بعث مهرجان قرطاج وبناء روابط الصلة بين سينمائيي الجنوب من خلال مساهمته في بعث مهرجان واغادوغوا في بوركينا فاسو ودعم العلاقات بين السينمائيين القادمين من بلدان الجنوب. لقد اهتم هذا الثلاثي الخاص بخلق السينما التونسية وتطويرها على مدى السنين.
وإلى جانب هذا الجيل من الأوائل والمشيدين لا بد من الإشارة إلى أجيال عديدة من المسؤولين والمنتجين كأحمد بهاء الدين عطية ونجيب عياد وراضي تريمش والمخرجين وأولهم عمار الخليفي ثم الأصدقاء رضا الباهي والناصر خمير وخالد البرصاوي وعبد اللطيف بن عمار والنوري بوزيد وفريد بوغدير وإبراهيم اللطيف والمنصف ذويب والجيلاني السعدي والناصر الكتاري والطيب الوحيشي والحبيب المستيري ومفيدة التلاتلي والنائبة السابقة والمناضلة سلمى بكار وغيرهم كثير وعديد الفنانين الآخرين والمتدخلين في ميدان الصناعة السينمائية والذين ساهموا في ترسيخ هذه الصناعة واهتموا بهذا المولود الجديد في بلادنا وأعطوه من الحب والعطف ما جعله يكبر ويشتد عوده.
العنصر الثاني والذي ساهم في هذه المسيرة التاريخية للسينما في بلادنا هو الجانب المؤسساتي من هياكل ومؤسسات وقوانين التي دعمت العمل السينمائي في بلادنا. وهنا لا بد منا لتنويه وإعطاء رسالة امتنان للأختين أو الجامعتين السينما الهاوية ونوادي السينما وكان لهاتين الجامعتين في غياب مدارس سينمائية في بلادنا إلى حد السنوات التسعين دور أساسي في تكوين السينمائيين وصقل مواهبهم وتدعيم ثقافاتهم السينمائية من خلال تجارب سينمائية مختلفة وقد تابعت عمل الجامعتين خلال عقود في مناصب مختلفة كعضو ثم كمسؤول والآن كمحب غيور وقد شاهدت العمل الهام الذي تقومان به لا فقط في الميدان السينمائي بل كذلك على المستوى الثقافي العام من خلال فتح أجيال كبيرة من الشباب على ثقافة التسامح والاختلاف واحترام الآخر والتي تشكل المبادئ الأساسية التي تدعم ثقافة الديمقراطية والمعادية للتطرف والإرهاب.
وإلى جانب هاتين المؤسستين فقد خلقت بلادنا عديد الهياكل الأخرى نذكر منها شركة (الساتباك) التي شكلت النواة الأولى للصناعة السينمائية في بلادنا إلى جانب سن عديد القوانين لدعم الإنتاج السينمائي ودفعه وقد لعبت هذه المؤسسات دورا هاما وقد اتبعت عديد البلدان الأخرى كالمغرب مثلا تجربتنا في دعم وتطوير الصناعة السينمائية في بلادنا.
وإلى جانب الأشخاص والمؤسسات لا بد من الإشارة إلى عامل ثالث لعب دورا كبيرا في تطور السينما التونسية وفي المكانة التي نحظى بها على المستوى العالمي وهذا العامل هو خصوصية الكتابة السينما التونسية بالرغم من الاختلافات بين المخرجين في التأكيد على التجارب الذاتية وعلى آمال وانكسارات الفرد وأحلامه مع ربطها بالإطار السياسي أو الاجتماعي العام. وهذا الاختيار ميز السينما التونسية على غيرها من سينماءات العالم الثالث فلو نقارن مثلا بين السينما التونسية وشقيقتها الجزائرية نرى اختلافا وتباينا كبيرين في المضمون والكتابة السينمائية ففي حين ركزت السينما الجزائرية على القضايا الجمعية الكبرى والمعارك السياسية الكبرى كمعركة التحرير والنضال ضد الاستعمار اختارت السينما التونسية (حتى السياسية منها) التركيز على الفرد وعلى أحلامه وآماله وحكاياته الصغيرة ولعل فيلم المخرج عبد اللطيف بن عمار «حكاية صغيرة كهذه» أكبر تعبير على الاختيار والمسار الذي اتبعته السينما التونسية منذ ميلادها والذي كان مصدر تميزها واختلافها عن السينماءات الأخرى وجعلها من صفة السينماءات الما بعد حداثية من حيث تركيزها على الفرد وعلى تجاربها.
وقد كان هذا التميز وراء تجدد السينما التونسية والاهتمام الكبير الذي تلقاه على المستوى العالمي فقد شهدت كل السينماءات التي اهتمت بالقضايا الكبرى تراجعا هاما بعد أزمة الأفكار التحررية والنظريات الكبرى كأزمة الأنظمة الوطنية والمشاريع الثورية الأخرى فإن سينما الفرد والذات وجدت في القضايا الجديدة وتساؤلات الفرد وأحلامه الجديدة وآماله مجالا جديدا للإبداع. وهكذا تمكنت الأجيال الجديدة من السينمائيين التونسيين من اغتنام الحرية الجديدة التي أوجدتها الثورة للغوص في أحلام وآمال وخوف الفرد أمام المستقبل والتحولات الجديدة التي تعرفها بلادنا في هذه المرحلة الما بعد ثورية.
إذن التقت كل هذه العناصر منذ البدايات لتجعل من السينما التونسية مجالا للحوار مع الذات وللغوص في كنه آمالها وأحلامها مما خلق تميزها واهتمام الآخر بها وجعلها اليوم تعرف ربيعها.
إلا أن الحديث على هذا الربيع لا بد أن يأخذنا على الإشارة إلى التحديات التي تواجهها السينما التونسية اليوم والتي تتطلب حلولا وسياسات جديدة لكي لا تذبل أزهار هذا الربيع ويتطلب هذا الموضوع دراسات هامة ومطولة وأود هنا الإشارة إلى مسألتين هامتين تهم الأولى دعم الإنتاج السينمائي في بلادنا ولئن مكن الدعم العمومي المنتجين والمخرجين من العمل فإنه أصبح في اعتقادنا غير كاف ولا بد من إيجاد دعم هام من مصادر أخرى كالقطاع الخاص ولهذا السبب قمت مع الصديق مراد الصكلي لما كنا في حكومة السيد مهدي جمعة بسن قانون الرعاية في أوت 2014 لدعم توجه القطاع الخاص للإنتاج الثقافي ولا بد لكل الدوائر المسؤولة من التعريف أكثر بهذا القانون لتوفير إمكانيات أهم للإنتاج الثقافي والإنتاج السينمائي بصفة خاصة.
المسألة الثانية تهم ضرورة سن قوانين جديدة لتشجيع الإنتاج الأجنبي في بلادنا والذي علاوة على خلقه لفرص عمل لآلاف التقنيين في بلادنا فإنه يساهم في دعم مداخلنا من العملة الصعبة.
تعيش السينما في بلادنا اليوم ثورة وربيعا سينمائيا لا مثيل له فقد اغتنم هذا التراكم الكبير من التقاليد والإبداع الحرية التي أوجدتها الثورة لجعل مئات الأزهار في الحقل السينمائي تتفتح ومن واجبنا اليوم حماية هذه الأزهار والعناية بها والحنو عليها لأنها تحمل آمالنا وأحلامنا في الخروج من الاستبداد وبناء الديمقراطية والابتعاد عن العنف والإرهاب.