يسبحون في أفق رحب. كنّا نحبّ الحياة حبّا كثيرا...
انتهى ذاك الزمن الجميل. غدا العيش في تونس صعبا. ضاقت البلاد وهذا توتّر منتشر. في تونس اليوم ضيق، مكابدة. من حولي، كثر التشكّي. منذ الثورة، ازداد الوضع حدّة... رغم عسر العيش وما كان مع الثورة من تعثّر، يجب أن نتفاءل خيرا، أن نؤمن بأن الغد أفضل، أن نسعى ونبعث من خلف الظلمات شمسا. يجب أن نحبّ الحياة ونعضّ على الحياة بما أوتينا من أضراس متعبة. رغم العسر، تبقى الحياة جنّة، نعيم السماء والأرض وهذه أزهار وتفّاح وعنب وهذه حور، قبل ترفرف. في هذا الزمن العصيب وحتّى لا يخذلنا الزمن، يجب أن نعيد الامل للأنفس. يجب أن نعيد الحياة للحياة، أن نمرح ونلهو ونفتّح قلوبنا للشمس. غابت الشمس. لا يهمّ، فلسوف نسعى، نبحث، نلقى مصباحا، شمعة، عود ثقاب فينبعث النور ونزهو بما كان في اللحظة من نور بصيص، من متعة...
الكلّ يجب أن يسعى حتّى نرفع الغمّ. الكلّ يجب أن يضحك للدنيا. لكن، في ما أرى، يلقى الكثير منّا لذّة في البكاء المستمرّ. نحن شعب بكّاء نحبّ الأطلال وما كان في عصور الخلافة وما كان بين عنترة وعبلة. نحن نحيا في الماضي... أنظر في التلفزة فألقى بكاء وشكوى.
أمشي الى الأسواق فألقى دموعا منثورة وحسرة. أنظر في جلسات هيئة الحقيقة والكرامة وقد غدت الهيئة حائط المبكى وفيها تذرف الدموع يمنة ويسرة. ها أنا أستمع الى شهادات هذه والآخر فألقى الكلّ يبكي...
في الجلسة الأخيرة للهيئة وقد امتدّت ثلاث ساعات، رأيت تذرّعا لا يتوقّف وبكاء لا ينقطع. لماذا يبكي الناس في جلسات الهيئة؟ أفلا يعلم الناس أنّ النظام السابق قد ظلم واستبدّ؟ أفلا يعلم الناس أن كلّ سلطة فيها تسلّط وهذا تاريخنا مثلا كلّه ظلمات أشدّ وأعظم؟
شدّني بكاء المتفرّجين أكثر من بكاء المشتكين. ما يقوله المشتكون يتكرّر وفيه تشابه مقلق. شدّني ملل من هذا التكرار وغادر الكثير الجلسة. سئمت المتابعة ولولا بكاء واحد من الحاضرين لأغلقت الملفّ وانتقلت الى قنوات أخرى. شدّتني دموع الأستاذ محمّد القوماني. شدّني
وجهه المنقبض... أعرف الأستاذ وكنت لاقيته وقرأت له. لم أره من قبل أبدا يبكي. لم أره في مثل هذا التأثّر. لا أحد بكى مثل ما بكى القوماني. أحيانا، يقول المشتكي قولا مسطّحا، بسيطا وأرى القوماني في بكاء حارّ، شديد. تحكي المرأة ما كان لها أيّام بن عليّ وكيف هي تزوّجت دون رضا أبيها الذي تحبّ. أنظر فأرى القوماني في دمع شديد، ينهمر. انتهيت من الجلسة وقد سئمت القول المتكرّر. بقي بين عينيّ رأس القوماني وعينيه ودمعه النازل أرضا. تحكي المرأة كيف حجز السرياطي البندقية. أنظر فأرى دموع الرجل تنزل كمطر، كحجل أسقطه أبوها الصيّاد ببندقيته المحتجزة. ثم تقول كيف دعاها أبوها وقبّلها تقبيلا فأرى دموع الفرح في عيني الأستاذ تتساقط ولا تتوقّف. لا أرى غير القوماني وما في عينيه من دمع وفي وجهه من حسرة. انتهيت من الجلسة ومن سهام ومن الهيئة. لماذا هو يبكي بكلّ هذه الحرقة؟ ما تقوله المرأة «ترّهات» لا تستوجب كل هذا الدمع. لا ادري من جاء من بعد. نسيت ما قاله السفير السابق وما أتاه من قول مبعثر. كلّ هذا انتهى وامّحى وبقيت أرى وجه محمّد القوماني وهو في بكاء متّصل، يمسح الدمع فيعود الدمع الى مقلتيه. هل تذكّر الرجل من مات من أبويه؟ لا أدري لم هو في مثل هذا التأثّر. ها هي سهام بن سدرين بصوتها الوديع تدعو الى الهدوء والصمت. ها هو القوماني، في صمت، يبكي على ما كان من عرس، من بندقيّة، من ذكرى... أنا أكره البكاء. يجب أن نكفّ عن البكاء وما بالدموع تتغيّر الأمم. يجب أن نضحك للحياة. أن نزهو كلّ ساعة، كلّ يوم...
في الأيّام القادمة، يحلّ رأس العام الجديد. هي مناسبة لإحياء الحبّ، لإحياء حبّ الحياة الدنيا. هي مناسبة لملء ضلوعنا بالنسيم، بالفرح، بالأمل. هي فرصة حتّى نزهو ونحيا. هي مناسبة لنشرب الخمر، لنأكل ما طاب ولذّ، لنخطف ما استطعنا من خير ونعمة. ان الله يريد بنا خيرا فلنغنم من الدنيا ولنسعد وننعم بما توفّر من نعمة. في الترويح عن الأنفس احياء للأنفس. في الزهو والطرب، احياء للحياة وبعث للروح... الكلّ مدعوّ الى استقبال رأس السنة المسيحيّة بما استطاع اليه سبيلا. البلديّة والتجّار والناس أجمعين مدعوون الى تزيين البلاد والشوارع والديار، الى نشر النور والعطر والأمل. الى زرع أشجار السرو، الى اشعالها نورا وبهجة، الى الدفع الى الحياة الدنيا حتّى نفرح وننعم ونمشي الى الأفق، الى العرش وما كان وراء العرش من غاية أخرى...