بعد ان بات الكل يقرّ أن الفساد اخترق كل الأجهزة، ومحاربته تقتضي ان تنخرط كل الأجهزة، خاصة الأجهزة القضائية التي تلام لبطء معالجتها للملفات.
حينما تقدم في الثالث من أوت الفارط ليلقي خطاب التكليف في قصر قرطاج رفع يوسف الشاهد كمن سبقوه شعار الحرب على الفساد والضرب بقوة لرموزه وباروناته، وكمن سبقوه احتل الفساد جزاء هاما من بيان حكومته الأول في مجلس نواب الشعب عشية المصادقة على حكومته.
أولوية يدرك الشاهد يوم كلف ويوم تسلم السلطة أنها لا تعالج بالخطاب وإنما بالمؤسسات والقوانين، وهنا يعاب على الرجل الكثير بالعودة لما قاله وما انجزته حكومته، وفق ما صرح العضو بها المهدي بن غربية، فالحكومة تشتغل وفق نسقها، وهي تدرك ان الحرب لا تخاض في آجال قصيرة.
حقيقة ان الحرب على الفساد تحتاج نفسا طويلا وإرادة سياسية تتجدد، لا احد ينكرها خاصة بعد أن طال الفساد كل مؤسسات الدولة كما صرّح بن غربية، وزير العلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، الذي تمسك بان حكومته تحقق خطوات في ملف مكافحة الفساد وان لم تبرز بعد للعيان.
فحكومة الوحدة الوطنية ضاعفت ثلاث مرات من موازنة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد برئاسة شوقي طبيب، لتبلغ الموازنة الجديدة اكثر من 360 مليون دينار.
هذا القرار بالرفع في موازنة الهيئة الخاضعة وفق القانون لرئاسة الحكومة ومواردها متأتية منها، لم يكن استثناءا، فذات السياسة القائمة على الترفيع في موازنات شملت كافة المؤسسات والهيئات المساهمة في مكافحة الفساد، على غرار القطب القضائي المالي.
لكن الرفع دون منح صلاحيات يظل منقوصا وهو ما تقره حكومة الشاهد صراحة وتلميحا، مثل أن تقرر فتح ملفات عديدة لمورطين في ملفات فساد، ولكن في اطار من السرية بحجة حماية التحقيقات.
نقيصة يقول أعضاء من الحكومة ان لهم نية تفاديها بمنح الهيئات والمؤسسات المعنية بمكافحة الفساد صلاحية أكثر بمقتضى أوامر ولوائح، ستصدر تباعا في الفترة القادمة.
فحكومة الشاهد وفق بن غربية لم تتراجع عن نية القضاء على الفساد، وان كان الامر يتطلب الكثير من الوقت والجهد، فالفساد اقترن بمؤسسات الدولة واجهزتها وبات جزءا من سلوك العاملين بها وبمؤسساتها. دون استثناءات مما يعني بالنسبو لها ان الحرب ستشمل كل المجالات، هذا يتطلب الوقت والدعم٫ وهو ما لم تحدد الحكومة اي خطوات عملية بشانهما.
دور الحكومة وما يعاب عليه من ضعف النسق الإبقاء على الوضع كما هو عليه مما عجل بالوصول الى مرحلة تحديها في العلن، مرحلة لا يمكن ان تحمل الحكومة أوزارها، وان كانت تتحمل الجزء الأكبر، فاليوم وبعد انتخابات المجلس الأعلى للقضاء باتت الحرب على الفساد مسؤولية خمس هيئات ومؤسسات، الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، دائرة المحاسبات، القطب القضائي المالي، لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام، المجلس الأعلى للقضاء.
هذه المؤسسات والهيئات الخمس، وان اختلفت مهامها ووظائفها، فان لا معنى للحرب على الفساد ان اختل دور اي منها، ولعل في هذه المرحلة سيكون للمجلس الاعلى للقضاء دور مفتاح.
هذا المجلس الذي انتخب أعضاؤه يوم الاحد الفارط، سيكون قاطرة الحرب على الفساد، فللمجلس مساهمتان كبيرتان في الحرب على الارهاب بحكم صلاحياته.
أولهما مساهمة أساسية، وهي تنقية القطاع بعد أن طال الفساد جزءا منه، أي أن المجلس الأعلى للقضاء مطالب اليوم بان تكون أولى خطواته إصلاح المنظومة التي شابها الكثير من الشك وشبهات الفساد، وهي خطوة أولى تجاه تحديد أولويات السلطة القضائية.
أي أن تجعل السلطة القضائية والعاملون فيها مسالة الحرب على الفساد ومعالجة الملفات المحالة إلى القضاء أولوية، بعد أن تعثر القيام بهذا طيلة سنوات الثورة، فأكثر من 800 ملف أحيلت على القضاء لم يصدر فيها أي قرار أو حكم بعد 5 سنوات عن إحالتها من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ولجنة عبد الفتاح عمر (لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة). تأخر في معالجة ملفات الفساد انتقدته الحكومات المتعاقبة والهيئات المكلفة بمقاومة الفساد بل والمنظمات المهنية الممثلة للقضاة والفاعلون في النظام القضائي التونسي.
لكن ليس القضاء وحده من تعثرت خطاه فكل الاجهزة الرقابية عانت من ذلك مما اجبر الشاهد وحكومته على إعادة ترتيب بعض الخطط التي سربت الحكومة بعض ملامحها كإعلان نوايا وربحا للوقت في ظل تصاعد حدة الانتقادات الموجهة اليها في معالجة ملف الفساد.
الحرب على أي كان او أية ظاهرة يخوضها قطاع واسع من المجتمع وأجهزة الدولة، قد تكون الحكومة هي قاطرة الحرب كما قد لا تكون، وفي الحرب على الفساد لا يمكن ان يترك زمامها للحكومة بمفردها كي يعاب عليها لاحقا الفشل..