فمن جهة شق مناوئ ورافض إسناد هذه الجائزة الأهم على المستوى العالمي إلى مغني مهما ارتقت ومهما وصلت إليه كتاباته وشعره من جمالية وحساسية. الشق يرى أن هذه الجائزة يجب أن تبقى حكرا وأن تهتم بكبار الروائيين والكتّاب والذين كتبوا وخلفوا ملاحم روائية هامة يمكن أن تصنف في خانة كلاسيكيات الأدب العالمي.
ومن جهة ثانية يدافع شق ثان عن مبدإ إسناد هذه الجائزة إلى الشعراء الغنائيين ويدافع عن قرار لجنة نوبل التي أشارت في تقريرها أن «ديلان يعتبر أيقونة أثرت تأثيرا كبيرا على موسيقى العصر». كما أكد تقرير لجنة الجائزة أن «ديلان خلق في إطار التقاليد الكبيرة للموسيقى الأمريكية تعبيرات شعرية جديدة». وفي رأيي فإن هذا العنصر يشكّل حجر الأساس في إسناد الجائزة للشاعر المغني الأمريكي ويؤيد هذا الشق قرار لجنة نوبل ويعتبر أن بوب ديلان يستحق هذه الجائزة كغيره من كبار الأدباء الذين تحصلوا عليها في السابق.
ويبقى الجدال قائما والسؤال مطروحا هل يستحق الشاعر المغني الأمريكي جائزة بأهمية جائزة نوبل للآداب والتي تحصل عليها أكبر الأدباء والروائيين في العالم. وهذا يدفع إلى التساؤل حول أهمية الكتابة الجديدة والتي تجمع الشعر والمسرح والصورة البسيطة ولا ترتقي إلى مستوى الإبداع والفن الكلاسيكي وفي كلمة هل آن الأوان للاعتراف بالإبداع الما بعد حداثي واعتباره شكلا من أشكال الإبداع الراقي كما هو الشأن للإبداع الحداثي كالرواية والأدب الكلاسيكي.
ولكن قبل أن نعود إلى هذه التساؤلات الكبرى دعونا نرجع إلى مسيرة بوب ديلان لنفهم الأسباب العميقة للشهرة الكبيرة التي يتمتع بها ولتأثيره الكبير خاصة في أوساط الشباب الرافض في الستينات وسبعينات القرن الماضي.
وُلد بوب ديلان في 24 ماي 1941 في دولوث وهي مدينة صغيرة في ولاية مينوسوتا في شمال أمريكا على الحدود مع كندا. وتحتوي هذه المدينة على أكبر المناجم في أمريكا وبالتالي يتكون سكانها من نسبة كبيرة من العمال.
وتتميز بوجود تقاليد نضالية عمالية كبيرة مما سيكون له تأثير كبير على تفكير بوب ديلان وقناعاته السياسية. وسيتعلم ديلان العزف في سن الثامنة ليصبح سريعا عازفا محترفا على القيتارة والهارمونيكا. وقد وصل ولعه بالموسيقى إلى درجة أن العزف على الآلات الموسيقية أخذ كل وقته. ثم بدأ في تكوين فرق موسيقية مع أصدقائه في المدرسة وفي المعهد.
وإثر انتهاء دراسته الثانوية سينتقل ديلان سنة 1959 إلى الجامعة ليبدأ دراسته الجامعية في ميدان الفنون الجميلة في مدينة مينابوليس أين سيعرف عددا كبيرا من المثقفين ومن الفنانين ولكن ديلان لن يواظب كثيرا على الدراسة وسينقطع بعد بضعة أشهر ليتفرغ إلى الفن والموسيقى والغناء في المقاهي والحانات إلا أن ديلان لن يعرف نجاحا كبيرا وسيعيش ظروفا صعبة ولن يتحصل على الشهرة التي كان يأمل فيها.
وأمام هذا الفشل والتهميش سيقرر ديلان المغامرة والسفر إلى عاصمة الفن والثقافة نيويورك كمحاولة شق طريقه هناك. وسينتقل إلى نيويورك سنة 1961 وسيكون لهذا القرار والاستقرار في حي greenwich village الذي يقصده الفنانون والبوهيميون وكل المبدعين تأثير كبير على مستقبل ديلان الفني وسيكون نقطة انطلاق لتجربة فنية فريدة لتجعل من هذا الفنان الصعلوك أحد أهم الفنانين لا فقط في أمريكا وبل وكذلك في العالم وليتمكن اليوم من الحصول على جائزة نوبل للآداب.
وسيبدأ ديلان مسيرته الفنية في مدينة نيويورك بالغناء في الحانات والمقاهي ومصاحبة بعض المغنين المعروفين على القيتارة أو البيانو أو الهارمونيكا. وسيصدر ديلان في بداية الستينات أول ألبوماته الغنائية وسينشر كذلك أولى قصائده وأشعاره في عديد المجلات الصادرة في نيويورك. وسيعرف ديلان الشهرة سريعا بعديد الأغاني الملتزمة سياسيا والتي ستعبر عن أزمة الشباب الأمريكي ورفضه للنظام السائد ولعل أشهرها « blowin in the wind » و «the times they are a changin » وسيصبح في فترة الستينات والسبعينات أحد أهم المغنيين والصوت الأيقونة التي تعبر عن ضيق الشباب وقلقهم واحتجاجهم السياسي والاجتماعي. وسيتواصل تأثير ديلان إلى حد نهاية السبعينات في القرن الماضي ثم ليتراجع كثيرا في الثمانينات بعد دخوله مرحلة دينية إثر انتقاله إلى الكاثوليكية. ثم سيبتعد عن هذه المرحلة الدينية في نهاية القرن ليعود له بعض من إشعاعه الفني والإبداعي الذي سيتواصل إلى يومنا هذا.
وسيكون لبوب ديلان طيلة هذه المسيرة الفنية تأثير هام واستثنائي على أجيال كبيرة من الشباب الأمريكي والعالمي. ليختزل ثورتهم وآمالهم وانكساراتهم وليعبر عليها في أغانيه وأشعاره ورسومه وأفلامه. وهذا التأثير يرجع في رأيي إلى أربعة أسباب أساسية. السبب الأول هو سياسي ويرجع إلى ارتباط بوب ديلان بالحركة الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح أحد أيقوناتها وأهم رمز لثقافة الاحتجاج في العالم. وسيبدأ هذا الوعي السياسي في مدينة دولوث التي ولد فيها والتي تتميز كما أشرنا بتقاليد عمالية كبيرة سيكون لها تأثير كبير في وعي الشاب ديلان وفي تكوين ثقافة الرفض عنده. وسيتدعم هذا الوعي السياسي عند ديلان إثر ذهابه إلى نيويورك واستقراره هناك. فسينخرط هناك في الحركات الاحتجاجية على المستوى الطلابي والحركات الثقافية المضادة والرافضة للمجتمع الرأسمالي. وسيشارك ديلان إلى جانب عديد الفنانين......