وضعية محرجة تمر بها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، في إطار الصراعات الداخلية بين الأعضاء التسعة سواء حول عملية تجديد الثلث والأسماء المعنية بالقرعة، أو حول مقعد رئاسة الهيئة الذي هيمنت عليه الحسابات السياسية أيضا من قبل الكتل البرلمانية. هيئتان في هيئة واحدة، هكذا تبدو الوضعية اليوم في مجلس الهيئة بين الأعضاء الجدد والأعضاء المنتخبين منذ سنة 2014.
نفس السيناريو يعاد من جديد في إطار معضلة انتخاب رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في آخر يوم من آجال تقديم الترشحات أي يوم أمس 12 أكتوبر ، حيث قدّم نفس المترشحين السبعة ترشحهم باستثناء تغيير وحيد أي أنه سبق لستة منهم أن قدموا ترشحهم خلال الجلسة العامة الانتخابية في مجلس نواب الشعب.
الأعضاء الذين قدموا ترشحهم هم كل من نبيل بفون، أنيس الجربوعي، نبيل العزيزي ومحمد التليلي المنصري، أنور بن حسن، نجلاء ابراهيم، فاروق بوعسكر.
أول مطلب ترشح بلغ إلى مجلس نواب الشعب كان من العضو أنيس الجربوعي الذي يعتبر المنافس الأقوى في السباق نحو الرئاسة، رفقة العضو نبيل بفون باعتبار حصولهما على أكثر عدد من الأصوات في الدورة الانتخابية الأولى، ثم انحصرت الدورة الانتخابية الثانية في ما بينهم، لكنهما لم يحصلا على الأصوات الكافية للفوز بمنصب الرئاسة والمقدر بـ 109 أصوات.
نجلاء ابراهيم تدخل السباق نحو الرئاسة عوضا عن العضو عادل البرينصي -الذي لم يقدم ترشحه هذه المرة- وذلك لاعتبار التوافق الحاصل بين الكتل البرلمانية بأن يتم انتخابها في سد الشغور شريطة ان لا تقدم ترشحها لرئاسة الهيئة حينها.
صراعات داخلية
الغريب في الأمر كذلك أن العضو نبيل العزيزي قد أعرب عن نيته في عدم الترشح من أجل فسح المجال للتوافق على مترشحين اثنين فقط مثلما حصل سابقا حين لم يحضر في جلسة الاستماع إليهم صلب لجنة التوافقات في مجلس نواب الشعب. كما أن مجلس الهيئة قد دخل مرة أخرى في صراعات بين الأعضاء القدامى والجدد، حتى بتنا نشاهد اليوم هيئتين في هيئة واحدة، أثرت نوعا ما على نسق أعمالها، وهو ما جاء على لسان عضو الهيئة نبيل بفون الذي أقر بوجود أزمة داخل مقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، داعيا في الأثناء إلى ضرورة الإسراع بحلها لاسترجاع ثقة الرأي العام في الهيئة. كما أن أنيس الجربوعي قد يسقط ترشحه في التوافقات بين الكتل، بعد حصول الهيئة على الوثائق والتقارير التي تثبت ارتكابه جرائم
انتخابية في مكتب الاقتراع بصفاقس 2 وبالتحديد في مدرسة «بالي»، حيث انحاز لأحد المترشحين وعطّل عملية الاقتراع لربع ساعة، وهي وثيقة يبدو أنها قد بلغت إلى نواب المعارضة الذين راسلوا الهيئة كتابيا من أجل الحصول عليها.
هذا كله دون الحديث عن وجود نية من قبل مجلس الهيئة من أجل اتخاذ القرار المناسب ضد الجربوعي حسب القانون الذي يخول إعفاء رئيس الهيئة أو أحد أعضاء مجلسها في صورة ارتكابه لخطإ جسيم في القيام بالواجبات المحمولة عليه بمقتضى هذا القانون أو في صورة الإدانة بمقتضى حكم بات من أجل جنحة قصدية أو جناية أو في صورة فقدانه لشرط من شروط العضوية بمجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. على أن يرفع طلب الإعفاء من قبل نصف أعضاء مجلس الهيئة على الأقل ويعرض على الجلسة العامة للمجلس التشريعي للمصادقة عليه بالأغلبية المطلقة لأعضائه.
بدورها الكتل البرلمانية لا تزال منقسمة إلى اليوم بين من يساند تولي نبيل بفون رئاسة الهيئة كحركة النهضة والجبهة الشعبية والكتلة الديمقراطية التي تتحفظ على الجربوعي لوجود شبهة انتماءات سياسية وارتكابه لجرائم انتخابية خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، إضافة إلى اعتبار هذه الكتل أن المبدأ من انتخاب نبيل بفون رئيسا للهيئة يكمن بالأساس في أن هذا المنصب بحاجة إلى الخبرة في التسيير. في حين تساند كل من كتلة حركة نداء تونس والاتحاد الوطني الحر والكتلة الحرة لمشروع تونس والكتلة الوطنية العضو أنيس الجروبوعي بحجة ضرورة اعتماد مبدأ التجديد، مع العلم أن كتلة آفاق تونس لم تبد أي موقف واضح إلى الآن باعتبار موقفها السابق يتمثل في تجديد ثلث أعضاء الهيئة قبل انتخاب الرئيس.
المبدأ من إعادة فتح باب الترشحات لرئاسة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من قبل مكتب مجلس نواب الشعب بعد انسداد الأفق والحلول، تمكين الفرقاء السياسيين في المجلس وأيضا أعضاء الهيئة من فرصة ثانية من أجل التوافق على اثنين منهم أو عضو فقط، قد يسهل المهمة أمام المجلس للتوافق وفك الخلاف الحاصل. لكن يبدو أن إعادة نفس السيناريو مرة أخرى، لن يغير في الأمر بتاتا، أو قد يسحب رؤساء الكتل البساط من الجميع، ويغيرون بذلك مواقفهم من خلال التخلي عن التوافقات السابقة والبحث عن عضو آخر توافقي، قد يكون من العنصر النسائي كالعضو نجلاء إبراهيم التي تحظى أيضا باهتمام حركة النهضة.
خلافات حول سد الشغور
اجتماع مجلس الهيئة الذي انعقد يوم أمس كان من المفروض أن يخرج بمرشح توافقي، إلا أن تشبث المواقف عكس تلك الصورة التي حاولت الهيئة تسويقها في أول اجتماع لها بالزعم على أنه «توافقي» عقب انتهاء عملية سد الشغور. اجتماع مجلس الهيئة انعقد وسط أجواء مشحونة ليس حول رئاسة الهيئة فقط، بل أيضا حول البحث عن حلول جذرية بجميع الإشكاليات العالقة أهمها مسألة القرعة، مع العلم أن بعض المصادر من الهيئة تؤكد وجود نيات في التخلي عن عضوية الهيئة أو الدخول آليا أو طوعيا في القرعة مثلما فعل العضو السابق كمال التوجاني. لكن في المقابل، فإن النص القانوني يفرق بين الاستقالة والقرعة، وهو ما اعتبره مجلس الهيئة مخالفا للقانون، حتى أن هناك من يطالب التوجاني بإرجاع رواتبه التي تحصل عليها منذ تقديمه استقالته الضمنية أو مطلب الدخول في القرعة.
لا يمكن الحديث عن انتخاب رئيس الهيئة بمنأى عن عملية تجديد ثلث أعضاء الهيئة، بالرغم من استيفاء آجال هذه العملية منذ يوم 8 أكتوبر الفارط، وهو ما جعل مجلس نواب الشعب يطالب الهيئة في مناسبتين بأن تمده بالأسماء التي ستدخل في القرعة. لكن المفاجئ في الأمر، أن الأعضاء الجدد الذين تم انتخابهم مؤخرا من قبل مجلس نواب الشعب في إطار عملية سد الشغور يرفضون الدخول في القرعة، بتعلة أنهم لم يكملوا مدتهم المقررة حسب القانون المحدث للهيئة بسنتين. ويذكر أن الاستشارة التي كانت قد تقدمت بها هيئة الانتخابات إلى المحكمة الإدارية أقرت بأن الجميع معني بعملية تجديد الثلث، باعتبار أن الأشخاص الذين جاؤوا في إطار سد الغشور سيكملون مدة الأشخاص المستقيلين. هذا وقد بين العضو محمد التليلي المنصري في إطار بروز إشكالية العضو السابق كمال التوجاني من قرار الاستقالة في علاقة بالدخول الطوعي في القرعة الأولى انه غير معني بالقرعة بتاتا، ذلك أن عضويته كانت في إطار تجديد ثلث تركيبة الهيئة.
العملية باتت واضحة اليوم وهي أن الأعضاء القدامى يحاولون بشتى الطرق إقصاء الأعضاء الجدد باعتماد آلية القرعة ومنعهم من الترشح لرئاسة الهيئة حتى لا يتم إرباك المسار الانتخابي البلدي والجهوي والانتخابات الجزئية في ألمانيا باعتماد عامل الخبرة، في حين يسعى الأعضاء الجدد إلى التملص من القرعة سواء من خلال البحث عن مخرج قانوني أو من خلال الترشح لرئاسة الهيئة باعتبار أن الرئيس غير معني بالتجديد.