في حين أنه لو أدى كل المواطنين واجبهم الجبائي لما كانت حال المالية العمومية على ما هي عليه الآن ولتمكنّا من تسخير هذه المليارات من الدنانير (والتي يقدر بعضهم أنها قد تبلغ العشرة أي نصف الموارد الذاتية للدولة !!) لتنمية الجهات الداخلية ولدفع جدي لعجلة اقتصادنا المهترئة...
ويبدو أن كل الحكومات المتعاقبة قد عجزت عن إيجاد المدخل الضروري لبداية معالجة هذا الداء العضال الذي قد يقضي على الحرث والنسل معا...
والتهرب الضريبي أصناف شتى.. تتمثل صوره القصوى في كل نشاط اقتصادي خارج الأطر القانونية بالكلية كالتهريب مثلا أما أشكاله «المعتدلة» فنجدها في ثنايا كل تصريح لمن هو مطالب بالجباية يظهر فيه جزءا من مداخيله ويخفي أجزاء.. وهذا الشكل من التهرب الضريبي ممارس في بلادنا على نطاق واسع بمن فيهم الأفراد والمؤسسات المهيكلة والمندرجة، نظريا، في ما نسميه بالاقتصاد المنظم...
لا شك أننا أمام عقلية ضاربة في أعماق الزمن تعتبر أن الأموال التي نحصل عليها عبر مبادلاتنا التجارية أو الخدمية أو غيرها إنما هي من «حرّ» مالنا كما نقول ولا حق للمجموعة الوطنية فيها... وإن اضطررنا إلى دفع جزء منها تجدنا نتحايل على القانون وعلى مصالح الجباية لدفع أقل جزء ممكن مما نحن مطالبون به... وهذا ما جعل كاهل الجباية المباشرة الأساسي يضغط فقط على الأجراء وعلى المؤسسات الاقتصادية المنظمة وعلى المواطنين من ذوي الحس المدني المرتفع... وقليل من هم كذلك .. ولكن رغم كل هذا هنالك مداخل ممكنة للحد بصفة جدية من هذه الآفة لا فقط عند المتهربين جزئيا من الضرائب ولكن حتى عند أباطرة المتهربين منها كليا أو ما نسميهم بالحيتان الكبيرة في مجال التهريب...
نعلم جميعا أنه بإمكاننا إخفاء جزء من ثروتنا في شكل سيولة مالية خارج المنظومة البنكية ولكن كل من تجاوز حالة الكفاف في بلادنا يسعى إلى «التمتع» بما أنعم الله عليه من كسب مشروع أو غير مشروع وهذا «التمتع» يصرف بالأساس في الممتلكات العقارية بأصنافها... وهذه الممتلكات لا يمكن إخفاؤها عن نظر العموم – ومن باب أولى وأحرى أعوان الجباية – كما نخفي بعض الأمتار المكعبة من العملة المحلية والأجنبية...
وهذا يعني أن مصالح الجباية يمكنها تقدير جزء هام من حجم مطابقة التصريح على الدخل لمواطن ما مع ما يمتلكه من عقارات.. أي أن من يصرح بدخل سنوي في حدود 10.000 دينار ويملك منزلا فاخرا يقدر بمليوني دينار دون أن يكون قادرا على تبرير هذا الفرق الشاسع بين مداخيله المصرح بها للجباية وممتلكاته غير المنقولة كأن يكون ورث هذا المنزل بصفة شرعية إنما هو متهرب جبائي ويمكن لمصالح وزارة المالية أن تعتبر أن ثمن هذا المسكن يساوي خمس سنوات من دخل الشخص المعني بالأمر على سبيل المثال... أي أن صاحبنا يصرح بدخل في حدود 10.000 دينار في حين أن دخله الأدنى هو في حدود 400.000 دينار أي أربعين مرة أكثر مما صرح به وعليه يكون مطالبا بضريبة على الدخل في حدود ربع قيمة مسكنه أي نصف مليون دينار على الأقل...
وصاحبنا هذا – ومثله بالآلاف في تونس – لن تنتهي قصته مع الجباية عند هذا الحد إذ لـو كـان دخلـه السنـوي فـي حدوده الدنيـا بـــ 400.000 دينار فذلك سيصاحبه بقية العمر وسيجبره إداريا وقضائيا كذلك إن لزم الأمر على كشف حقيقة نشاطه الاقتصادي وعلى تبرير حقيقة موارده وسيصبح مطالبا سنويا بقيمة جبائية لا علاقة لها البتة بما صرح به بداية...
لا شك أن صاحبنا الذي أطنبنا في الحديث عنه قد يخفي أملاكا منقولة عن الدولة ولكن تتبع أملاكه غير المنقولة سواء تلك التي سجلها باسمه أو باسم زوجته أو إخوته أو أبنائه سوف يجبر مئات الآلاف من التونسيين على الخروج من «العتمة» الجباية إلى دائرة الضوء وذلك دون نصوص قانونية إضافية أو إصلاح جذري لمنظومة الجباية ننتظره منذ سنوات بل فقط بتطبيق مبدإ جبائي تونسي ودولي وإنساني: «من أين لك هذا؟» وهذا المبدأ سيسمح لإدارة الجباية بإصلاح منظومات معلوماتها حول المطالبين بالجباية وتحيين جدي لمستويات دخلهم دون أن يكون في ذلك ظلم أو حيف لأنه بإمكان صاحبنا سالف الذكر أن يلتجئ للقضاء وأن يثبت، إن كانت لديه حجج، بأن هنالك تعسفا في تقدير إدارة الجباية...
وليكن واضحا للجميع فالمراقب الجبائي لن يدخل بيوت الناس بل هو مطالب فقط بأن يقول لنا ما هي....