• كل التعهدات الداخلية للحكومة التونسية تفيد بأن كتلة الأجور ستكون في حدود 14٫7 مليار دولار!!
اليوم يجتمع بقصر قرطاج وحول رئيس الجمهورية اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة وأحزاب التحالف الحكومي الأربعة وتنضاف إليها هذه المرة أربعة أحزاب أخرى وهي حركة مشروع تونس والمسار وحركة الشعب والمبادرة والموضوع هو أولويات حكومة الوحدة الوطنية وهيكلتها...
وقبل هذا الموعد شاهدنا سيلا عارما من الاجتماعات الحزبية وغير الحزبية للتباحث وللتشاور حول المبادرة الرئاسية في شكلها ومضمونها وكذلك في الشخصية التي ستخلف الحبيب الصيد...
ويبدو أن بعض هذه الاجتماعات الداخلية أو الثنائية بين أحزاب الائتلاف الحاكم وخاصة النداء والنهضة قد غابت عنها أولويات البلاد وحضرت فيها مطامح ومطامع هذين الحزبين اللذين يريدان تقاسم المناصب والمواقع...
لا ينبغي أن ينسى هؤلاء لِمَ بادر رئيس الجمهورية بفكرة حكومة الوحدة الوطنية.. إذ لو فعلوا ذلك فسيقودون البلاد إلى كارثة مؤكدة...
ما الذي دفع الباجي قائد السبسي إلى هذه المخاطرة بإعلانه، ضمنيا، فشل هذه الحكومة ودعوته إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية؟
الأكيد أن الدافع الأساسي، ونظنه الوحيد، لا يكمن في غضب فلان أو علاّن من عدم تسمية أحد الموالين له...
الدافع الأساسي هو إدراك رئيس الجمهورية بأن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد تزداد سوءا يوما بعد آخر وأن التحديات التي تنتظرنا قد تقصم ظهر البعير كما يقال.
وبعد هذا الإدراك حصل يقين عند رئيس الجمهورية بأن الحكومة الحالية – لا فقط رئيس الحكومة – لا تستطيع قيادة هذه المرحلة بالحد الأدنى من النجاح المطلوب...
كل هذا دون أن ننسى الخطر الإرهابي الذي مازال مرتفعا في تونس رغم النجاحات الأمنية الباهرة لقواتنا الأمنية والعسكرية...
ولكن وما لم يقله أحد بالوضوح المطلوب: الحكومة التونسية بصدد إخلاف وعدها مع صندوق النقد الدولي... وتلك هي «مفاجأة» 2017... بل ولعلها هي «الحائط الذي طالما بُشّرنا به...
نعلم جميعا أن كتلة الأجور بالنسبة للقطاع العمومي قد بلغت حوالي 13 مليار دينار أي حوالي 45 % من ميزانية 2016 و14 % من الناتج الإجمالي الداخلي...
والاتفاق الذي التزمت به حكومة الصيد في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي هو ألا تتجاوز هذه الكتلة 13,4 مليار دينار سنة 2017 أي بزيادة قدرها 3 %.. ولكن التعهدات الكثيرة والعديدة التي أمضت عليها الحكومة سوف ترفع كتلة الأجور هذه إلى ما يناهز
14,7 مليار دينار السنة القادمة أي بزيادة نسبتها 13 % لا 3 % كما هو متفق عليه مع صندوق النقد الدولي...
هذه هي إحدى الكوارث الأساسية التي تنتظر تونس سنة 2017..
والإشكال لا يكمن فقط في هذا الارتفاع المشط لكتلة أجور القطاع العام بل في هذا الإخلاف المخلّ بعهد قطعته تونس على نفسها أمام أهم طرف دائن لنا اليوم... ولو حصل هذا الأمر فعلا فسوف نكون في وضع لا يبتعد كثيرا عمّا عاشته اليونان السنة الفارطة...
لأنه لو رفع صندوق النقد الدولي يديه عن تونس فلن تجد بلادنا من يقرضها لتغطية عجز موازناتها الذي أضحى هيكليا.
هذا ما لا يعلمه جلّ المهرولين اليوم إلى قصر الحكومة بالقصبة وهذا ما يعلمه وما هو مسؤول عنه بعض المهرولين الآخرين...
المعلومات المتوفرة لدينا تفيد بأن عددا قليلا جدا من أعضاء الحكومة ومن مستشاري رئيسها هم على علم بهذا الملف والذي انعقدت حوله بعض الجلسات الضيقة جدا ولا ندري هل خرجت الحكومة بقرارات أم لا...
ما يعنينا الآن هو أن تعلم كل الأطراف المعنية مباشرة أو بصفة غير مباشرة بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية ماذا ينتظر البلاد بعد أشهر معدودات.. هذا دون الحديث عن التصرف الهزيل للحكومة ولوزارة المالية تحديدا في ملف التداين الخارجي لتونس...
القاعدة التي انبنى عليها التداين الخارجي للبلاد ما قبل الثورة كانت قائمة على مبدإ «الأثلاث الثلاثة»: ثلث مع الجهات متعددة الأطراف (صندوق النقد والبنك العالمي...) وثلث في إطار التعاون الثنائي وثلث بالاعتماد على الأسواق المالية العالمية...
ومن مزايا هذه السياسة، إن كان للتداين من مزية، تنويع مصادر تمويل اقتصادنا وعدم رهن قراراتنا لطرف معين...
بعد الثورة وخاصة انطلاقا من سنة 2013 حصل تحول في الموازنة إذ أصبحت الجهات متعددة الأطراف وبخاصة صندوق النقد الدولي تحتل حوالي نصف مديونيتنا الخارجية وذلك بالاعتماد على عنصر وحيد في المعادلة وهو نسب الفائدة الضعيفة لهذه القروض ودليل ذلك عدم خروجنا على الأسواق في شهر أفريل الماضي على عكس ما كان متوقعا والتبرير الذي قدمه وزير المالية أمام مجلس نواب الشعب هو الخشية من نسب فائدة مرتفعة (مقارنة بفائدة صندوق النقد الدولي) ومما قد يكلف خزينة الدولة مبالغ إضافية ... ولكن ما
غاب عن وزير المالية أنه لو خرجنا على الأسواق في شهر أفريل بفائدة في حدود 5 % نكون قد زودنا السوق النقدية التونسية بالعملة الأجنبية مما يحد، ولو جزئيا، من الضغوط الكبرى المسلطة على الدينار اليوم ونكون – وهذا الأهم – في وضع مريح أكثر في تفاوضنا مع صندوق النقد الدولي بدل التسرع في قانون البنوك وما شابه من عدم دستورية ومن طعن جديد ومن انتظار غير مطمئن من قبل دائننا الرئيسي اليوم...
فما تصوره وزير المالية السيد سليم شاكر بأنه عين الحكمة إنما يدل حسب العارفين بالسياسات المالية على قراءة غير جيدة للوحة قيادة المديونية الخارجية لتونس...
كل هذا دون أن نتحدث عن العجز المفزع للصناديق الاجتماعية وعن هشاشة نمو اقتصاد البلاد وبقاء البطالة في مستوى مرتفع للغاية (15,4 %)..
لا يشك أحد في الظروف الصعبة للغاية التي تمر بها البلاد ولكن ينبغي أن نعقد العزم على تغيير زوايا النظر وعلى التوافق الجدي والقوي على أوليات إنقاذية يساهم فيها كل طرف حسب الإمكانيات الفعلية المتاحة له...
لا مناص من إقدام الشغالين، كل الشغالين، على بعض التضحيات ولكن لا يمكن أن نفهم وأن نقبل عزوف فئات المجتمع الأخرى من أصحاب المهن الحرة وأرباب العمل عن تقديم التضحيات الضرورية لتنمية الموارد الجبائية للبلاد ولدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام كما لم يعد بالإمكان الحديث اليوم عن الاقتصاد الموازي دون بداية إقحامه جديا عبر الترغيب والترهيب في العجلة التنموية الحقيقية...
هذه بعض تحديات حكومة الوحدة الوطنية وهذه أيضا بعض إخفاقات حكومة الحبيب الصيد ولكن لو أبقينا على نفس الآليات سوف نحصد حتما نفس النتائج إن لم نقل دونها مع الحبيب الصيد أو مع خلفه...
لنصارح أنفسنا أولا بالحقيقة، كل الحقيقة، ثم لنجد سويا المخارج العملية... فالمسألة كما ترون أكبر وأهم وأعظم بكثير من نصيب هذا الحزب أو ذاك في «كعكة» مذاقها – لو يعلمون – أمرّ من العلقم..