يبدو أن السيادوية (le souverainisme) أضحت من المميزات الأساسية للخطاب الرسمي للدولة وللأطراف السياسية المساندة للرئيس وقوام هذه السيادوية الدغمائية هو «التحرر» من المحاور الخارجية المهيمنة على البلاد (أي أوروبا وأمريكا) والاستقلال عن كل الجهات المالية الدولية (وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) والتقارب الديبلوماسي والاقتصادي مع المحاور المناهضة للمحور الغربي (أي مع الصين وروسيا والتوجه نحو إفريقيا وأمريكا اللاتينية).
غني عن القول أن هذا الخطاب لا ينطلق البتّة من المعطيات الموضوعية للاقتصاد التونسي وهو لا يدرك بالمرة طبيعة علاقاتنا التجارية والديبلوماسية والإمكانيات الفعلية لآلتنا الإنتاجية وماهية مجالات الربح والخسارة مع كل تغيير جذري في علاقاتنا التجارية.فالسيادوية نظرية عقائدية لا يعنيها بالمرّة تقديم حلول عملية لواقع معقد بالضرورة بل هي رغبة جامحة لاختزال الواقع بمشاكله والحلول الممكنة لها من زاوية نظر مسبقة مبنية على إرادوية ساذجة.
عندما نكون إزاء خطاب سيادوي عقائدي، كما هو الحال في تونس اليوم،لابد لنا أن ننتبه إلى ما يجري في أرض الواقع لأن الهوة سحيقة في الأغلب الأعم ..
نحن دولة مستقلة ذات سيادة لا يجوز لأحد أن يتدخل في قراراتنا أو أن يعطينا دروسا ..
ذلك هو جوهر الخطاب الرسمي ولكن الممارسة السياسية في واد ثان مختلف تماما فنحن نصوت في المحافل الدولية دوما كما يريد الأمريكان وآخر العنقود تصويتنا في الجمعية العامة ضد قرار روسيا إلحاق مقاطعات بأوكرانيا ثم ها نحن نعرض إستراتيجية العمل الحكومي للسنوات القادمة على طاولة النقاش مع صندوق النقد وقد أخذنا بعد كل ملاحظاته واقتراحاته والاتفاق مع الصندوق هو الذي سيحدد جل السياسات العمومية في السنوات القليلة القادمة .
ثم ها نحن نقترض من البنك الأوروبي لشراء الحبوب ونتسلم إعانات من الولايات المتحدة لمساعدة العائلات المعوزة ..
هذه حقيقة سيادتنا اليوم وهذا حجم احتياجاتنا للآخرين وهذا ما قبلناه وما سنقبله من شروط الأطراف المانحة لإنقاذ المالية العمومية كما أننا بصدد تقديم بعض التنازلات الديبولماسية لا فقط للقوى الدولية المهيمنة ولكن أيضا لبعض القوى الإقليمية طمعا في مساعدات لا تكاد تسمن أو تغني من جوع ..
لا يشك احد اليوم في أن الوضع الكارثي للبلاد اليوم هو نتيجة تراكمات عقود وخاصة العقد الأخير الذي تزايدات فيه أخطاء التسيير والتقدير بصفة لافتة ولكن حوكمة التدابير الاستثنائية منذ حوالي 15 شهرا فاقمت الصعوبات بداية بقراءة خاطئة للواقع وثانية لأن لهاثها وراء سيادوية خطابية موهومة جعلها لا تهتم مطلقا بتوفير عناصر السيادة الوطنية الفعلية فنحن نحارب طواحين الهواء بدلا من معالجة الأمراض التي أضحت تهدد جل منظومات الإنتاج السلعي والخدماتي في بلادنا .
لقد وصل الانشطار النفسي إلى حدّ يهدد بالانفصام النهائي بين واقع يتخبط فيه عامة الناس وخطاب سياسي يحلق خارج المدار الأرضي ..عندها قد يكون الاصطدام بالوقائع الصلبة مدمرا للجميع .