بعد البيض واللحوم الحمراء الآن الحليب: منظومات الإنتاج في خطر !

في السنوات الأخيرة نستمع بين الفينة والأخرى إلى صيحات فزع يطلقها أهل مختلف القطاعات الفلاحية والصناعية والخدماتية،وفي أحيان كثيرة يتحدثون عن المخاطر التي تهدد منظومة إنتاجية ما ..

ولكن ماذا نقصد في تونس عندما نتحدث عن منظومة اللحوم البيضاء أو منظومة الحليب ؟
ينبغي أن نعود إلى سبعينات القرن الماضي والى طبيعة الإنتاج الفلاحي آنذاك وما كان يتبعه حتما من طبيعة استهلاك العائلة التونسية..

الدولة التونسية لم تتعامل مع مختلف أصناف الإنتاج الفلاحي والحيواني بنفس الطريقة، إذ اعتبرت، وهي محقة في ذلك، أن هنالك إستراتيجية ينبغي بها ضمان الحدّ الأدنى لديمومة غذاء العائلة التونسية كاللحوم والألبان والحبوب ثم تدريجيا بعض المواد الأخرى كالبطاطا وغيرها ..
في السابق كان التونسي يستهلك ما تنتجه الزراعات الموسمية، كما كانت العائلات– إلى حدود بداية السبعينات – تعمد إلى تخزين البيض أشهرا عديدة قبل شهر رمضان أو تصبير الطماطم والفلفل في الصيف لأن هذه المنتوجات تغيب عن الأسواق في بقية السنة .
ينبغي أن ندرك كل المجهودات المالية والبشرية التي بذلت بتخطيط من الدولة لتوفير الحليب وتصنيعه محليا بعد أن كنا نستورده في شكل حليب مجفف أو نكتفي بما نجده عند مربي الأبقار والذين يتولون بأنفسهم توزيع إنتاجهم في المجال العمراني القريب منهم .
منظومة – على سبيل الذكر – كانت تعني، فيما تعني، إدماج العائلات الفقيرة ضمن برنامج «العائلة المنتجة» بتوفير بقرة أو بقرتين لعدة عائلات في الريف التونسي واستجلاب أجناس البقر ذات الإنتاجية العالية وتنظيم مراكز جمع الحليب والتشجيع على التصنيع إلى أن حققت البلاد اكتفاءها الذاتي من هذه المادة الحيوية وقد كان هذا الأمر كالحلم المستحيل في العشرية الأولى لدولة الاستقلال..

منظومات الإنتاج الأساسية في الألبان أو اللحوم البيضاء وغيرها نبعت من تصور مركزي قوامه ضرورة توفير غذاء متوازن للعائلة التونسية ننتج جله في تونس كلما أمكن وندمج به فئات من الأوساط الريفية في منظومة اقتصادية متكاملة عادة ما كان الفلاح فيها الطرف الأضعف بالنسبة للمصنع وللمستهلك على حدّ سواء.

ولا تعني ديمومة منظومة من المنظومات توفير الإنتاج فقط بل كذلك القدرة على تخزينه زمن الذروة وإيجاد معادلة إلى حد ما منصفة بين المنتج والمجمع والمصنع وتتدخل الدولة في بعض المنظومات (الألبان نموذجا ) لدعم الثمن عند الاستهلاك.
ينبغي أن ندرك أن توازن منظومة إنتاج فلاحية ليست مسالة هينة في بلد يرزح تحت خط الفقر المائي المدقع ولا تتوفر فيه الأراضي الخصبة بالقدر المطلوب.. كما أن الهدف الاجتماعي حاضر بقوة في عدد مهم من هذه المنظومات وإن كان ذلك متمحورا عادة حول المستهلك المديني لا المنتج الريفي عبر آلية الدعم حتى يكون سعر البيع للعموم في متناول جل سكان المدن ..

لقد قضينا عقودا طويلة لإرساء هذه المنظومات بنوع من الشراكة بين الخواص إنتاجا وتجميعا وتوزيعا والدولة التي ترسم الأهداف العامة ثم تتدخل لدعم القطاع بأشكال مختلفة ..
نحن أمام نجاحات نسبية لأنها تحتوي على هشاشات كبيرة، فهذه المنظومات تتأثر كثيرا بالمناخ وبشح المياه وبأثمان المدخلات وخاصة الأعلاف وبالمكننة الضرورية لكل هذه الحلقات .. وهذا يعني أن تخلي الدولة عن هذا الدور الاستراتيجي مع رغبتها فقط في التحكم في السعر النهائي فقط، كما هو الحال خلال كل هذه السنوات الأخيرة، سوف يزيد من هشاشة هذه المنظومات بل وقد يعرض جزءا منها إلى خطر التلاشي..

وما نقوله عن منظومات الإنتاج الفلاحي والحيواني يصح أيضا، ولو بشكل مختلف، في كل الصناعات المعملية حيث عمدت الدولة إلى سياسات قطاعية واضحة الأهداف في مجمل الصناعات المعملية وكذلك في الخدمات (السياحة مثالا) وفي الصناعات الاستخراجية كذلك..
بطبيعة الحال هنالك اخلالات عديدة في كل هذه السياسات كما أن هنالك تحولات تكنولوجية واستهلاكية تستوجب حتما مراجعة فلسفة هذه المنظومات وهذه الاستراتيجيات من أجل نمو أفضل وتنمية أكثر عدالة واستدامة.. لكن ما حصل منذ الثورة وإلى حدّ اليوم، أن الدولة انسحبت من كل هذه الأدوار الإستراتيجية واكتفت بدور رجل المطافئ الذي يتدخل لإخماد الحرائق أو الشرطي الذي يريد فرض شروطه على الجميع ..

تعيش البلاد اليوم أزمة حادة متعددة الجوانب ولكن مصلحة الجميع الا تكون مختلف منظومات الإنتاج هي التي تدفع الثمن لأن الإصلاح سيصبح حينها أمرا مستحيلا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115