أي أنه يأتي شيئا عبثيا ليست له بداية ولا نهاية. وبقدر شهرة هذا العقاب كان الجهل بأسبابه. فقليل هم الذين يعلمون ما اقترفه سيزيف حتى استحقّ هذا المصير. ولمّا كانت حال تونس تشبه كثيرا مآله في تكرار العبث، كان من المفيد التذكير بباقي عناصر الأسطورة الإغريقية.
كان سيزيف أذكى رجال عصره. وقد أسس مدينة إغريقية اسمها كورانت. كانت مشكلته أن موقعها يشكو من ندرة الماء. ولمّا كان قد علم بأن دزوس، كبير الآلهة الإغريقية، قد اختطف إيجين، ابنت إيزوب أحد آلهة الماء، اقترح سيزيف على هذا الإله الصغير أن يخبره بمصير ابنته مقابل عين ماء سخيّة تحيي أرض كورانت. غضب دزوس، فأذن لتاناتوس، إلاه الموت، أن يتولّى أمر سيزيف الخائن. ولكن هذا الأخير احتال قائلا: «يا إلاه الموت، ما كنت أعلم بأنك جميل إلى هذا الحد. أعلم أنك جئت لتقبض روحي. ولكنني قبل موتي أريد أن أهديك حليا أحسب أنه لم يعد يصلح لي بعد الآن». قبل إلاه الموت الهدية. فكانت أغلالا قيدته وشلت حركته. فنجا سيزيف.
اشتكى أداس، إلاه الجحيم، من انعدام الموتى. حيث فقدت السعير التي كان يحرسها كل حريف جديد. وبعد الشكوى، هاجم قصر سيزيف، وأطلق سبيل زميله إلاه الموت. علم سيزيف أنه لن ينجو بسهولة هذه المرة. ولكنه طلب من زوجته أن تلقي جثته بعد موته دون أداء طقوس الموت. حين وصل سيزيف إلى الجحيم، تذرّع لإلهها قائلا: «أعلم أني قد آذيتك. ولكن زوجتي آذتني أيضا. فهلا أطلقت سبيلي يوما واحدا حتى أنتقم منها». قبل إلاه الجحيم العرض. ولكن سيزيف فرّ مع زوجته واختفى حتى وجده إلاه الموت في آخر عمره.
تلك هي القصة كما ترويها مصادر الأساطير الإغريقية. إنها تحكي الغرور الذي يصيب من يعتقد أنه ذكي. فإذا هو يعجز عن رؤية الواقع والقبول به والانطلاق منه للإصلاح. فيسعى لتغييره من دون اتباع الحكمة في سعيه. ثم تجده بعد ذلك يحتال لأنه يرفض دفع فاتورة عمله حتى تتراكم أوزاره، فتعجز عن حملها الجبال.
أين تونس من هذا؟ ألم يؤكد أحدهم أن اختصاص تونس هو الطابق السفلي. ذلك أنه كلما بنى بعضنا هذا الطابق جاء من بعده بعض آخر ليهدّموه على اعتبار أنه لا يصلح لشيء. ألا تذكّر متلازمة «الطابق السفلي» في واقعهنا التونسي بما انتهى إليه سيزيف في جحيمه الأسطوري؟ لكن لماذا؟ إذا كانت الأسطورة الإغريقية تحكي خطيئة الغرور وعواقبها، فماذا يحكي تاريخ تونس؟
إن تاريخ تونس يحكي قصة الهوس بالدستور والنصوص القانونية. يعني هذا الهوس الاعتقاد الراسخ بأن البلد يحتاج لنصوص مثالية. فلا تطوّر للواقع دون إرساء منظومة قانونية لا شبهة فيها. أي أن الواقع ليس موجودا بذاته، بل إنه تابع للنصوص القانونية التي تصنعه. فإذا اعتدى بعض المجرمين على قوّات الأمن، كان الحل في المطالبة بقانون لزجر الاعتداء على قوّات الأمن. وإذا غابت بعض المواد الأساسية عن الأسواق، كان الجواب في إصدار مرسوم يجعل من الاحتكار جريمة تفوق في عقوباتها جريمة الاتجار بالمخدرات. وإذا اشتدت الأزمة بين السياسيين، فلا مفرّ من تغيير منظومة الحكم بإعادة صياغة الدستور...
يبدو أن في العقل التونسي نزوعا لإنكار إكراهات الواقع ومسؤوليات الفاعلين فيه. بل إنه يكاد يختصر الواقع في الدولة، والدولة في التشريعات، والتشريعات في الدستور. ربما بدأت القصة منذ دستور عهد الأمان، ثمّ تكرّست مع اعتماد الدستور كشعار للحركة الوطنية، كي تنتهي إلى وصول أستاذ للقانون الدستوري إلى سدة قرطاج. ومعه وصلت نزعة «القوننة» إلى درجة «غير مسبوقة في التاريخ».
ليست المشكلة في الثقافة الدستورية التونسية، بل في انحراف هذه الثقافة إلى الهوس الدستوري. وذلك بنسيان حقيقة مفادها أن الدساتير إنما جاءت أصلا لتقييد السلطة بحيث لا تتعسّف على المجتمع، بما يسمح بتحرير ما فيه من قدرات وطاقات، فهي التي تغيّر الواقع بفعل التراكم على المدى الطويل. أما الهوس الدستوري، فإنه يتمثّل في الاعتقاد بأن بطء التغيير يثبت الحاجة إلى دستور أفضل. أي أن هذا الاعتقاد لا يطرح أصلا فرضية أن يكون البطء ناجما عن محدودية ما يختزنه المجتمع من قدرات على التغيير، وبالتالي فهو يقصي إمكانية التفكير في السياسات الضرورية لتطوير تلك القدرات.
إن تونس التي تعيش اليوم واقعا صعبا في اقتصادها وأوضاعها الاجتماعية، فضلا عن شقاقها السياسي واهتزاز مؤسساتها، تستعدّ مرّة أخرى لخوض مغامرة التأسيس من جديد. ذلك أن «الطابق السفلي» الذي بناه البلد جماعيا بين 2011 و2014 لا يروق للرئيس الأستاذ ولا يتلاءم مع ما يرى أن البلد يحتاجه من دستور مثالي ونصوص ألمعية. ولذا، فقد قضى نصف عهدته الرئاسية يفكّك عناصر ذلك « الطابق السفلي « تفكيكا. بل إنه بإلغائه لمؤسسة البرلمان وتعيين نفسه مشرعا وحيدا للبلد قد فكّك بعض الأسس الاصلية التي كان «الطابق السفلي» للديمقراطية التونسية قد اعتمد عليها.
لماذا لم يفضل الأستاذ الرئيس منهج الإصلاح؟ لأن الإصلاح يفترض الانطلاق من الواقع، والتعامل معه لتحسينه من داخله. لو كان سيزيف يطلب الإصلاح لما التجأ إلى إلاه الماء ولما خاطر بالدخول في صراع مع كبير آلهة الإغريق. ولكن ملك كورانت كان يريد أن يصيّر واقع مملكته غير واقعها. وليس ثمة إلا الآلهة من أجل ذلك سبيلا.
إن تاريخ تونس يحكي أيضا هوسا بصغار الآلهة. فالبحث فيها دؤوب عن القائد الملهم المتأله الذي يحمل عن الشعب مسؤولية الفعل، فيحميه من مواجهة الواقع ويغنيه عن تحمّل مسؤولياته فيه. ولكن الواقع ينتهي دائما إلى إدراك من يفرّ من مواجهته. وسيدركنا الواقع لا ما حالة. سيدركنا حتى لو غرقنا في أعمق نقاش دستوري «في التريخ».
إن الاحتيال على الموت في الأسطورة الإغريقية كالاحتيال على الاقتصاد في الحقيقة التونسية. فسيزيف استطاع أن يكبّل الموت مرة وأن يفرّ منه أخرى. ولكنّ النتيجة كانت أن أردته الحيلة إلى عبثية لا تنتهي من خلال عقوبة الحجر والجبل.
لا شكّ أن تونس قد استطاعت بعد 2011 التملّص من الإصلاحات الاقتصادية الضرورية باسم الانتقال الديمقراطي. ثمّ إنها تفصت من التزاماتها تجاه شركائها ومقرضيها، وخاصة منهم صندوق النقد الدولي، مرة وأخرى بتعلّة الحفاظ على السلم الأهلي وحماية الديمقراطية الناشئة وطابقها السفلي. فإذا هي اليوم أمام حتمية الإصلاح الموجع بعد أن هدمت بأيديها ذلك الطابق السفلي. ولأنها تستعدّ لإعادة بنائه وفق ذوق الأستاذ الرئيس، فهي في غفلة عمّا ينتظرها. بل لعلها تنكره كما أنكر سيزيف ساعة الحساب.
تونس السعيدة بحجر سيزيف
- بقلم أيمن البوغانمي
- 10:12 28/04/2022
- 1005 عدد المشاهدات
يعلم الجميع تقريبا عقوبة سيزيف. فهو يحمل حجرا ثقيلا من سفح جبل إلى أعلاه، كي يتدحرج الحجر بمجرد إدراكه للقمة. وعلى سيزيف أن يفعل ذلك إلى الأبد.