ندخل حتما في مناطق لزجة يمتزج فيها المقدس بالدنيوي ويصبح الدين واجهة من واجهات الصراع السياسي في المجتمع.
يمكن ان نجزم ان كل الدول العربية واجزاء مهمة من الدول الاسلامية تعيش منذ صدمة الحداثة في القرن التاسع عشر على وقع هذه العلاقات الملتبسة والمناطق اللزجة كما يوظف فيها الدين في استراتيجيات مباشرة أو معقدة لافتكاك السلطة أو للمكوث فيها ..
ولعل القضية الأهم والتي لم نجرؤ جماعيا على طرحها بالوضوح الكافي هي مكانة الدين في حياتنا العصرية وعلاقته بالقيم من جهة وبالعلم من جهة أخرى ..اي هل مازلنا نستمد قيمنا الجماعية من الدين وهل ان المحدد في معارفنا هو العلم أم الثقافة الدينية ؟
لقد سعت تونس منذ الاستقلال وتأسيسا على مراكمة الحركة الاصلاحية إلى إيجاد توازن خاص بين الابعاد الثلاثة لهذه المعادلة الدولة والدين والسياسة.
قد لا ننتبه كثيرا احيانا لوزن الكلمات فاختيار المؤسسين للنظام الجمهوري لا ينبغي أن يفهم كمسألة تقنية وكنقيض فقط للنظام الملكي بل كاختيار عصري وكتحرر شبه تام للدولة لا فقط من سطوة الحكم المطلق الملكي ولكن أيضا من السطوة المعنوية لرجال الدين، ففي الجمهورية القوانين وضعية وهي تصدر عن ممثلي الشعب ،صاحب السيادة وسيادته لا ترتبط بهرمية تتجاوزه
ولكن تحرر الدولة من سلطتي الحكم الملكي المطلق والسطوة المعنوية لرجالات الدين لا يعني ان الدولة قد انسجت كلية من المجال الديني كما هو حال الدولة اللائيكية (فرنسا نموذجا) بل أن الدولة تدير كل شؤون البلاد بما في ذلك المسألة الدينية.
الانتقال ضخم هنا فلسفيا فبعد قرون من اعتبار الدولة مجرد أداة خادمة للمشيئة الالهية ،وإن كان الواقع يناقض هذا تماما في أحيان عدة ،الى دولة تتعامل مع الدين والتدين كأحد سياساتها العمومية تماما كما تتعامل مع التربية والصحة وغيرها. ولكن الإشكال الكبير هو أن هذا التحول الضخم في علاقة الدين بالدولة لم يقع التنظير له بشكل كاف ولم يستبطن في الوعي الجماعي بشكل بات ونهائي ولعل الدولة الوطنية بقيادة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كانت تعول على تغيير البنى الذهنية والمادية للمجتمع (مجلة الاحوال الشخصية وتوحيد القضاء والتعليم وانهاء دور الهمينة الايديولوجية لجامع الزيتونة) لكي تترسخ تدريجيا هذه العلاقة الجديدة في الفضاءين العام والخاص.
ولكن الدولة الحديثة الراعية لشؤون الدين على النمط العلماني لا اللائكي وجدت من ينافسها على المشروعية الدينية اذ قامت حركات دينية متشددة ترنو إلى تغيير جدي لتوازنات معادلة الدولة الوطنية وأرادت فرض الفكرة القديمة/الجديدة : الدين فوق كل شيء ،وهو فوق الدولة والمجتمع والفرد مصدر العلم والمعرفة والقيم والاخلاق وما سوى ذاك فهو جاهلية جهلاء.
والجديد في هذه الدعوة القديمة اعتمادها على الانتظام الحزبي الفئوي لفرض هذا التصور القديم/الجديد على المجتمع ،اي الاعتماد على أحد مخرجات الحداثة السياسية (الحزب) لضرب الحداثة في عمقها باعتبارها تحررا مزدوجا من الحكم المطلق للملوك ولرجالات الدين.
في الحقيقة دعاة الاسلام السياسي لا يقولون بالدولة الدينية على النمط الكهنوتي بل يقولون بأن الدولة والمجتمع والفرد كلهم واقعون تحت سلطة الدين وأن الهدف أسلمة الفرد في سلوكه والمجتمع في قيمه وعلاقاته والدولة في قوانينها وتنظيماتها.
كل هذا لنقول بأن اعتبار الدولة ذاتا معنوية لا دين لها ليس كافيا لتحرير الدولة من السطوة الدينية وليس كافيا بالمرة اذا اعتبرنا ان الدين عبادات ومعاملات وأن العبادات لا معنى لها ألا باثرها المادي لأن كل هذا سيعيد قلب معادلة الحداثة التونسية وستكون الدولة بلا دين باعتبارها دولة ولكنها خاضعة للمعايير الدينية ولما يسميه بعضهم بمقاصد الشريعة، أي أن الدولة تصبح أداة لتحقيق أهداف تتجاوزها وأن الدين أخرجناه من شكل الدولة سيعود ليملأ مضمونها وهكذا تكون الدولة كوعاء دولة لا دين لها ولكن كمضمون أي كقوانين وكتشريعات وكمؤسسات ،دولة يكون فيها الدين هو معيارها الاساسي.
مفهوم أن الدول لا دين لها جيد ولاشك وهو واقع الدول في العصر الحديث ولكن لتحقيق ذلك لابد أن يكون مضمون الدولة وضعيا وأن يتاسس فيه الانتماء على المواطنة والمواطنة على المساواة اذ هي وحدها التي تضمن تجاوز كل تمييز على أساس العرق أو الجندر أو الدين أو اللغة..
وعندما نرفض المساواة ونعتبرها شكلية لا تحقق العدل نكون بهذا قد اعدنا الدين الى جوهر الدولة بعد أن كنا اخرجناه من شكلها..
يتبع
• في العدد القادم:
II - العدل والمساواة والانصاف